مستقبل الحراك السياسي في موريتانيا

حمَلَت النجاحات المتوالية للثورات العربية الراهنة الأمل للشعوب العربية بالتحرر من قيود الاستبداد والتخلف والتبعية.. وقد تعزز هذا الأمل بالنتيجة التي آلت إليها هذه الثورات وما انبثق عنها من انتخابات أفرزت مجالس تأسيسية لكتابة “عقدها الاجتماعي” بصورة ديمقراطية لأول مرة في تاريخها.

وهو ما شكل عامل دفع للشعوبَ العربية في كل مكان إلى التحرك طلبا للحرية ودفعا للاستبداد.. ولا يزال المد الثوري يتوسع ويفاجئ نظاما بعد آخر.. والأهم من كل هذا أن الشعوب اكتشفت أن لها قدرةً هائلة على الفعل وتغييرِ مسار تاريخها متى ما اقتنعت بذلك وسلكت له مسلكه: “الشعب يريد..”.

وقد نزلت أول مظاهرة في موريتانيا يوم 25 فبراير 2011 بدعوة من مجموعات شبابية على الفيس بوك، وهو ما أوجد نقاشا ساخنا حول مدى إمكانية وعدالة وواقعية قيام ثورة في موريتانيا.

ولم يتردد النظام الموريتاني – على غرار نظرائه وأسلافه- بالقول باستثنائية موريتانيا، وأن الثورة الموريتانية كانت قد أُنجزت في 3 أغشت 2005 (تاريخ الانقلاب على الرئيس السابق معاوية ولد الطائع)، وأن موريتانيا الآن نعيش مرحلة “ما بعد الثورة”.. بينما ذهب كثيرون للقول إن موريتانيا لن تُشكِّل استثناء، ولن تلبث عاصفة الثورة أن تأتي عليها مقتلعة نظام الحكم العسكري المهيمن على البلاد منذ مطلع السبعينيات.

وفي هذه الورقة محاولة لتشخيص هذا الحراك السياسي المتفاعل، وسبرِ  غوره؛ سواء من حيث مساره وجذوره، أو من حيث الفاعلين الأساسين فيه، محاولين رسم أهم السيناريوهات المتوقع أن تؤول إليها الأوضاع مستقبلا في هذا المنكب البرزخي:

المحـور الأول: جذور الحـراك

يَعتبر الموريتانيون أن روح الربيع العربي سرت في أوصالهم قبل سنوات؛ فقد كانوا الأسبق إلى الاحتجاج القوي على نظامهم الاستبدادي العسكري الفاسد، واستخدموا في ذلك كثيرا من أساليب النضال وآلياته المستخدمة حاليا في الربيع العربي: (الجُمع، الجامعات، والانترنت..)، ودفعوا فواتير السجن والملاحقة، حتى تكللت تلك الجهود بالإطاحة بواحد من أشرس الأنظمة الديكتاتورية التي حكمت البلاد منذ الاستقلال، وهو نظام الرئيس السابق معاوية ولد الطائع، هذا من دون أن ينجحوا حتى الآن في ترجمة شوقهم إلى الحرية والكرامة في واقع حقيقي، بفعل أكثر من سبب.

فمع نهاية التسعينات تلاحقت تطورات سياسية عديدة، من قبيل النهاية البائسة للمسلسل الديمقراطي الذي أعلنت عنه السلطة عام 1991 وانتهى إلى تكريس نظام أحادي ذي طابع عسكري عشائري بوليسي، في لبوس ديمقراطي مزيَّف، ولجوء نظام ولد الطائع حينها – تحت ضغط مضاعفات “ملف حقوق الإنسان” والموقف من حرب الخليج الثانية – إلى التطبيع الكامل مع الكيان الصهيوني، وشيوع الفساد الإداري والمالي وبلوغه معدلات غير مسبوقة.  تزامنت هذه التطورات مع وصول بعض أطياف الحركة السياسية الوطنية ممثلة في التيار الإسلامي وبعض أحزاب المعارضة الديمقراطية إلى حالة اليأس من إصلاح النظام، مما وفر بيئة ملائمة لميلاد ما يمكن أن نسميه “ربيع الاحتجاج” في موريتانيا ضد نظام العقيد معاوية ولد الطايع خلال الفترة مابين (مايو2003 اغسطس 2005)، وهو الربيع الذي رفع ثلاث شعارات أساسية، هي: الديمقراطية، وإنهاء الفساد، ووقف التطبيع مع الكيان الصهيوني. وقد تجلت الأشكال الاحتجاجية خلال هذا الربيع  في المظاهرات والمهرجانات والاعتصامات السلمية، وقامت المساجد بدور تعبوي مهم في هذا الحراك عبر الخطب المنبرية والكلمات والمحاضرات والندوات، كما لعبت الجامعة والمعاهد أدوارا أساسية..، وساهمت وسائل الاتصال الحديثة (الانترنت) بدور فعال، حيث استغلتها قوى المعارضة بشكل جيد من خلال إنشاء مواقع إلكترونية ما لبثت أن استقطبت شعبية كبيرة أحرجت النظام كثيرا وساهمت في تعريته، مما اضطره إلى حجبها وملاحقة القائمين عليها.

وبعد مسلسل من المحاولات الانقلابية الفاشلة (2003-2004) أقدمت قيادات المؤسسة العسكرية على التخلص من الرئيس معاولة ولد الطايع، وعدلت الدستور ونظمت انتخابات برلمانية ورئاسية أفضت لانتخاب أول رئيس مدني في تاريخ موريتانيا منذ حكمها العسكر، لكن أقطابا من الجيش تدخلوا في العملية الانتخابية وسعوا لبناء ذارع سياسية نجحوا من خلالها –بعد ذلك- في 2008 وبعد مضي أقل من سنتين على انتخاب الرئيس، في إدخال موريتانيا في اتون صراع سياسي مهد لانقلاب عسكري قاده الجنرال محمد ولد عبد العزيز.

لقد كان من الأسباب الرئيسية لإجهاض الربيع الديمقراطي الموريتاني الأول – إذا جاز التعبير- موقف بعض الأنظمة الاستبدادية العربية التي رأت في التجربة الموريتانية خطرا محدقا بها، فتآمرت مع قوى داخلية لوأد التجربة في مهدها . كما كان لنقص التجربة بسبب انعدام مثال ثوري سابق في شبه المنطقة، وغياب التنسيق بين القوى السياسية في قضايا من قبيل رد الأموال المنهوبة وإصدار قوانين العزل السياسي والضغط على العسكريين من البداية، دور في عودة البلاد للمربع الذي ناضلت كثيرا من أجل الخروج منه.

ومع هبوب نسمات “الربيع العربي” تجددت آمال الموريتانيين في انجاز حلمهم الأثير، وإكمالِ المشوار النضالي، والاستفادة من مزايا الربيع العربي الحالي، من قبيل: التهيئة النفسية للشارع، المثال الثوري الناجح، تراكم الخبرة النضالية وتنوعها، الظرف الدولي المناسب.. وفي هذا الظرف وُلدت من جديد المطالبة برحيل النظام العسكري الفرداني التي هي عنوان الحراك الموريتاني الحالي.

وهكذا ظهرت دعوات على الفيس بوك للخروج إلى الشارع يوم 25 فبراير 2011، وهو ما تم تحت شعارات متعددة وانطلق من مجموعات فيسبوكية (25 فبراير، ساكت لاش، موريتانيا الغد..).

لكن الضغط الشبابي الذي مارسته حركة 25 فبراير والمجموعات الشبابية المختلفة لم يدم طويلا (حدود ثلاثة أشهر) فقد أدى التعامل الأمني معه سواء في بعده القمعي الشرس أو في بعده الإختراقي التي تم لمجموعات التنسيق الشبابية، أدى كل ذلك لكسر شوكة الحراك مما أفقده الزخم الشعبي باكرا، بل وظهرت مجموعات سياسية موالية للنظام حاولت استثمار هذا الحراك لصالحه بتشكيلها لأحزاب باسمه (الحراك الشبابي من أجل الوطن..).

لقد نجح حراك 25 فبراير في إطلاق دينامية احتجاجية شبابية، لكنه فشل في أن يضم شرائح إجتماعية قوية ومؤثة ولا يمكن لثورة أن تنجح من دونها، فلم يستطع الحراك أن يقنع كتل اجتماعية قوية على الأقل سياسيا (AJD/MR، الممثل الرئيسي للزنوج الذين ظلوا متفرجين على الحراك بإعتباره ربيعا عربيا لا يعنيهم، وحزب التحالف الشعبي التقدمي الذي لم يرَ مبررا لحراك شبابي من هذا القبيل).

وبعد أن فشل الحراك الشبابي وبدا أنه عاجز عن قيادة حراك شعبي عارم ضد النظام، بدأت منسقية المعارضة الديمقراطية (تحالف سياسي يضم عددا من الأحزاب أهمها: التكتل، اتحاد قوى التقدم، حاتم، تواصل، ايناد، بليج..) في وضع استراتيجية نضالية تهدف بالأساس إلى رحيل نظام الجنرال محمد ولد عبد العزيز عن الحكم، وقد دشنت المنسقية مطالبتها برحيل نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز يوم 12 مارس 2012 بمسيرة قدرت إعلاميا بعشرات الآلاف من المحتجين، لتتبعها بسلسة من المسيرات (مسيرة الشباب والنساء، مسيرات شبه اسبوعية ترفع شعار الحسم والرحيل…).

ورغم نجاح وتيرة الاحتجاج السياسي وظهور الحركات الشبابية رديفة له من جديد (حركة الشباب الموريتاني MJM التي أسسها نشطاء محسوبون على الحركة الاسلامية والتي أطلقت وتيرة احتجاجية في العاصمة واشتهرت بالوقفات الاحتجاجية المصاحبة لزيارات الرئيس لداخل البلاد: انواذيبو، روصو، ألاك، أطار… والكتابة على الجدران، وعودة حركة 25 فبراير لتنظيم بعض الانشطة الرمزية)، إلا أنها لم تستطع أن تتجاوز الخيط الفاصل بين العمل السياسي المعترف به رسميا والعمل الثوري الذي لا يبالي بقيود السلطة التي يردي أن يضع حدا لها.

المحور الثاني: خريطة المشهد السياسي الحالي في موريتانيا

تتوزع المشهد السياسي اليوم قوتان أساسيتان، يمكن أن نطلق على الأولى: الرئيس والكتلة السياسية الداعمة له، بينما نطلق على الثانية: المعارضة الحدية المطالبة بـ”الرحيل”، ممثلة في منسقية المعارضة الديمقراطية. ومع أنه توجد كتلة المعاهدة المعارضة بشكل وسطي (ائتلاف يضم حزب التحالف الشعبي وحزب الوئام وحزب الصواب..) إلا أننا سنكتفي بالحديث عن هاتين القوتين نظرا لانحسار الصراع بينهما.

أولا. الرئيس وأغلبيته:

منذ اللحظة الأولى لوصوله للحكم انقلابا قبل أن يكون انتخابا سعى الجنرال محمد ولد عبد العزيز لبناء كتلة سياسية قوية تعتمد بشكل أساسي على حزب الاتحاد من أجل الجمهورية (الحزب الذي أسسه وترأسه الرئيس غداة استقالته من رئاسة المجلس الأعلى للدولة في 2009)، وعدد يزيد على الثلاثين من الأحزاب، معظمها أحزاب غير ذات وزن انتخابي.

وبإلقاء نظرة سريعة على الأداء السياسي للنظام، يمكن أن نلحظ تمكنه (على الأقل خلال المرحلة الأولى من حكمه) من تعزيز نقاط قوته من خلال صياغة خطاب شعبي ديماغوجي خَلَب به عقول طبقة عريضة من الفقراء والمسحوقين ، ليضيف لذلك اعترافا ودعما إقليميا ودوليا مقدرا بعد اتفاق دكار ، ثم ما لبث أن تحصل على دعم عدد من القوى الاجتماعية التي وقفت ضده في الحملة الرئاسية 2009، بل وبدأ في كسب بعض الأحزاب الأخرى (AJD/MR  صار ابراهيما، عادل..)، ثم شرع في التأثير على مواقف المعارضة فنال اعترافا من زعيمها أحمد ولد داداه عقب الرصاصة الأولى في معركة النظام المفتوحة مع القاعدة، ليتلوه كسب لموقف مماثل من رئيس البرلمان مسعود ولد بلخير وهو الموقف الذي تطور فيما بعد ليشكل أرضية لدخول حزب التحالف والوئام (حزب جديد يرأسه بيجل ولد حميد ويضم عدد من الشخصيات نظام ولد الطائع مثل: محمد يحظيه ولد المختار الحسن، لوليد ولد وداد…) وحزبي الصواب وحمام للحوار الذي أراد من خلاله النظام الالتفاف على فكرة الثورة، وخصوصا بعد فشل شباب 25 فبراير في مسعاهم لتثوير الشباب الموريتاني. وبذلك بدا النظام وقد استجمع عناصر قوة كثيرة، لكنه ما لبث أن بدأ يخسر نقاط قوته تباعا، خصوصا مع نجاح ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا، وارتكاب النظام لعدد من الأخطاء في تعاطيه مع بعض الملفات (استهداف رجال الأعمال، دخوله في حرب مفتوحة مع القاعدة…).

ثانيا. منسقية المعارضة الديمقراطية:

كانت المعارضة قد عاشت لحظات بالغة التعقيد، بعد الانتخابات الرئاسية لـ 2009 ، فقد فقدت خطابها السياسي لصالح قوة خطاب ولد عبد العزيز، وضَعُف انسجامُها بعد خروج حزب “تواصل” منها واعترافه بالنظام، وكانت نتائج التجديد الجزئي لمجلس الشيوخ ضربة قوية لقدراتها السياسية، إلا أنها ما لبثت أن بدأت تستعيد ألقها السياسي بعد تراكم أخطاء النظام وتغير السياق المحيط باتجاه الثورات. ويمكن استعراض عدد من النقاط التي سمحت للمعارضة بالعودة القوية للمشهد:

  1. الحالة الثورية الراهنة التي أنتجتها الثورات العربية وما أعطته من الأمل في التغيير، وهو ما يفتح الباب أمام القوى المعارضة لرفع سقف المطالب والسعي الجاد لتغير الواقع.
  2. بروز تيارات اجتماعية قوية (ايرا، لا تلمس جنسيتي)، ورغم أنها غير مندمجة في خط منسقية المعارضة، لكنها معارضة في توجهاتها السياسية للنظام.
  3. بروز كتلة سياسية خارجة من التحالف الشعبي التقدمي تضم عددا من القادة التاريخين وقيادات الوسط (ولد بربص والساموري) تتمسك بعباءة حركة الحر وتمتلك هي الأخرى قوة شعبية .
  4. بروز الأمل لدى القوى الاجتماعية المعارضة للنظام من بقايا النظام القديم، وهي القوى التي حاول النظام الحالي الانتقام منها، وتبدوا مستعدة وقادرة على الانخراط في أي حراك جاد لإسقاطه، وهي التي تمتلك قوة مالية وتتحكم في مفاصل الجهاز الإداري للدولة.
  5. دخول النظام في معركة ضد رجل الأعمال والسياسي صاحب العلاقات الواسعة (مصطفي ولد الإمام الشافعي)، وهو ما يمثل عنصر قوة للمعارضة، التي يمتلك الرجل يد بيضاء عليها أو على الأقل على بعض أطرافها، بما قد يشكل لها مستقبلا من سند وظهير مهم.
  6. الإخفاق في الوفاء بالآجال الانتخابية السابقة (التأجيل المتكرر لانتخابات الشيوخ، وتأجيل الانتخابات البرلمانية والبلدية)، وهو ما ينم عن فشل إداري وخصوصا فيما يتعلق بموضوع الإحصاء والهوية الوطنية.
  7. العجز عن تجسيد “نتائج الحوار..” رغم ضعفها وعدم ملامستها للاختلالات الجوهرية في توزيع السلطة، وعدم استيعاب الأحزاب التي تحولت باتجاه الأغلبية وهي التي ضحت من أجل النظام لتجد نفسها كموالاة من الدرجة الثانية.
  8. السخط المتزايد في صفوف الأغلبية الداعمة للنظام، فهي لم تنل مكاسب مادية من وراء دعمها ولا حظيت بأخرى معنوية، ومما يزيد ذلك السخط تشكيل الرئيس لحزب جديد من الشباب.
  9. انكشاف النظام أمام خطاب المعارضة (وأدائها القوي في البرلمان)، خصوصا فيما يتعلق بالمحسوبية في التعيينات والفساد في التسيير.

المحور الثالث: مستقبل الحراك الشعبي والسياسي في موريتانيا

إن محاولة تفحص مستقبل الحراك الشعبي والسياسي في موريتانيا تبقى محاولة جديرة بالاهتمام نظرا لما تنطوي عليه من إفادة، كونها تسعى لتبصيرنا بالمستقبل قدر المستطاع، وانطلاقا مما بحوزتنا من أدوات استشرافيه تتيح قدرا مهما من التدقيق في الواقع بجميع أبعاده يمكن أن نتوقع خمس سيناريوهات لمستقبل هذا الحراك، مع العلم أن مسار الأحداث كفيل بترجيح أو إلغاء أحد السيناريوهات، كما هو كفيل بتلفيق سيناريو من جملة السيناريوهات المتاحة.

  1. سيناريو “الثورة”:

في البداية من المهم الإشارة إلى أن الترتيب لا يعني علميا شيئا في هذه الحالة، ويبقى هذا السيناريو رهينا في تحققه بتوفر شروط أربعة:

–         مشاركة الجميع: فالانقسام الحاصل سياسيا بين طرفي المعارضة، طرف يطالب بالرحيل (منسقية المعارضة الديمقراطية)، وآخر لا يرى ما يبرر الدعوة للرحيل، يجعل من الصعوبة بمكان توقع حصول مثل هذا السيناريو، خصوصا أن بعض هذه الأطراف تمثل سياسيا على الأقل كتلا اجتماعية أساسية من الصعب حدوث تغير اجتماعي بحجم الثورة في غيابها، وقد أظهر استطاع للرأي اجراه مركزنا انقساما شعبيا مماثلا في الموقف من الثورة.

–         وجود نواة صلبة مستعدة للتضحية: تشكل محور دوران الحراك بشرط أن تكون قادرة على استقطاب الجماهير وقيادتها بوعي وبروح وطنية متعالية على الفروق السياسية والإيديولوجية، ومستعدة للتضحية، بمعنى أن تكون أقرب لمفهوم الطليعة المفجرة للثورة، ومما يلاحظ في النضال الشبابي في 2011والنضال السياسي في 2012أنهما لم يستطيعا أن يتجاوزا الأشكال القانونية الحرفية المقيدة للفعل الثوري.

–         تفجير قضايا شعبية كبيرة: إن الجزء الأهم المحرك والدافع باتجاه الثورة هو وجود قضايا كبيرة ملهمة للشعب وملامسة لهمومه ومصالحه الإستراتيجيه، فالثورة في تونس لم تكن لتنجح لولا قضية الحريات، وفي مصر لم تكن لتنجح لولا وجود قانون الطوارئ وقضايا فساد كبيرة ليس أقلها بيع الغاز لإسرائيل؛ وفي “حالة موريتانيا”: توجد عشرات القضايا القادرة – إذا تم تفجيرها- على تحريك الجماهير، من قبيل: العدل، قضية الشركات الأجنبية التي تستغل المعادن، الفساد، حكم الجيش..

ورغم وجود كوابح كثيرة تقف في وجه هذا السيناريو، إلا أنه يبقى سيناريو المفاجئة.

  1. سيناريو”المراوحة”:

إن طبيعة الحراك الاجتماعي والسياسي طبيعة متحركة دوما، إلا أننا هنا نتحدث في المدى القصير إلى المتوسط، ذلك أن عمر التجاذب الحالي بين النظام والمعارضة يعود في جذوره الأساسية للمعارك التي خاضتها القوى المدنية ضد النظام العسكري الديكتاتوري الذي حكم موريتانيا منذ انقلاب 1978وبدا في حكمه عاجزا عن تقديم أي شيء سوى تغير جلده كلما حشر في زاوية. إن هذا السيناريو قد يحدث إذا عجزت القوى السياسية والشعبية (أصحاب المظالم والمطالب الفئوية، الشباب الطامح للتغيير…) عن فرض رجحان كفتها في ميزان التدافع السياسي واستطاع النظام كسب تأييد الشارع والقوى المؤثرة في المشهد.

  1. سيناريو “التوافق”:

يظل سيناريو الحوار المفضي للتوافق خيارا سياسيا مطروحا نظرا لوجود سوابق له، وقد علمتنا التجربة أن النظام الحاكم يلجأ للحوار كلما أنسد الأفق في وجه، فعلها قبل انتخابات 06/06/2009رغم أنه ظل يرفض تغير الأجندة السياسية التي طرحها قبل ذلك، ولكن ما قد يحول دون هذا السيناريو يبقى بشكل أساسي هو انعدام الثقة الحاصل بين النظام والمعارضة وهو ما عززه مصير اتفاق دكار والاتفاق الأخير الموقع بين بعض احزاب المعارضة والأغلبية المدعمة.

  1. سيناريو “الانقلاب”:

هذا السيناريو أصبح البعض يلقبه بالسيناريو “الوطني” فقد ألفه الموريتانيون في كل مرة يحدث أن يصل فيها البلد حد الأزمة السياسية منذ 1978، ولكن موانع كثيرة قد تحول دونه (التغييرات التي أجراها النظام على قيادات المؤسسة العسكرية، نقل بعض الوحدات العسكرية إلى الداخل، ارتباط مصالح الكثير من قيادات المؤسسة بالنظام…) كما قد تدفع باتجاهه أخرى من قبيل (قرار النظام بالزج بالجيش في معركة مفتوحة مع القاعدة…).

  1. سيناريو “الانفلات”:

في دولة  كموريتانيا تزداد هشاشة –بحسب تقرير معهد كارنيجي- يبقى سيناريو الانفلات مطروحا، نظرا لطبيعة تركيبة المجتمع وطريقة إدارته طيلة الأعوام الماضية وما خلفته من تركة ثقلية، ليس أقلها سيطرة الجيش على مفاصل الحياة السياسية وتأجيل الحسم في ملفات كبيرة لها انعكاسات على السلم الإجتماعي، من جهة، ومن جهة أخرى فإن إصرار النظام على الدخول في حرب مفتوحة مع القاعدة المسيطرة على شمال مالى قد يفتح بابا لغياب الاستقرار السياسي والاجتماعي نظرا لخبرة القاعدة في حرب العصابات ولاتساع نطاقنا الجغرافي الغير محصن ضد الإختراق.

خلاصة الورقة:

لا تهدف هذه الورقة إلى الإحاطة الوافية بكافة الأبعاد التقييمية لما شهدته موريتانيا من حراك شبابي في الربع الأول من عام الثورات العربية 2011، أو ما تشهده حاليا من حراك سياسي واجتماعي يرفع شعار “الرحيل” في وجه النظام الحاكم بقياد الجنرال محمد ولد عبد العزيز، وإنما تسعى للتنوير بجذور هذا الحراك، وتقديم قراءة في السيناريوهات المحتملة له مستقبلا، دون أن تنسى فحص الفاعلين الرئيسين في المشهد، سواء في الأغلبية الداعمة للرئيس، أو في خصومه (منسقية المعارضة الديمقراطية). بمعنى أنها تحاول الإجابة على سؤالين جوهرين: كيف بدأ هذا الحراك؟ ثم كيف سينتهي؟

وانطلاقا من هذه الخلفية يمكننا أن نتوقف في خاتمتها عند الملاحظات التالية:

  1. أن موريتانيا شهدت حراكا سياسيا واجتماعيا صاحب انطلاق المسار الديمقراطي الذي أطلقه نظام معاوية ولد سيد أحمد الطايع، وخصوصا في نهاية حقبة التسعينات وبداية الألفية، حيث دخل النظام في مواجهة مفتوحة مع قوى المعارضة (خصوصا الحركة الإسلامية)، مما ولد بيئة مساعدة في التغيير وهو ما حفز قيادات الجيش على التدخل لوضع حد لحكم “ولد الطايع”، واطلاق مسار انتخابي بضمانات جديدة، أفضت في النهاية لانتخاب رئيس مدني لأول مرة، لكن هذه التجربة لم تعمر لأكثر من سنة ونصف السنة، وإذا بنا نعود للمربع الأول (الانقلاب 2008).
  2. أن الحراك الشبابي الذي انطلق يوم 25 فبراير 2011 استطاع تنظيم انشطة احتجاجية نوعية، وتوحيد جزء واسع من التيار السياسي (المعارض خصوصا) خلفه إلا أنه فشل في تجاوز عقدة السياسة، وأربكه التعاطى الأمني معه، فتم اختراق هيئاته التنسيقة والتحكم في نشاطاته وبذر الشقاق بين المكونات الأساسية له (انشقت منسقية شباب 25 فبراير: إلى مجموعات متعددة من بينها ائتلاف 25 فبراير، وحركة 25 فبرير..)، بينما عمل النظام على تأسيس أحزاب شبابية مواليه له يقول إن الشباب الثائر هو من أسسها.
  3. لم تنجح الحركات الشبابية في حراكها في كسر الحلقة الفاصلة بين العمل السياسي والعمل الثوري، نظرا –ربما- لغياب التأطير المناسب ولخوف الناس من المثال الثوري في ليبيا وسوريا اللذان شوشا على سلمية الثورات وحجبا منطق الثورتين التونسية والمصرية.
  4. أن نجاح النظام الموريتاني في افشال “الثورة الشبابية” لم يؤثر على قدرة المعارضة على تحريك الشارع، ظهر هذا جليا في المسيرات والمظاهرات التي نظمتها منسقية المعارة الديمقراطية، ولكن المعارضة ظهرت عاجزة عن استثمار التأيد الشعبي لها، فلم تستطع تخطي الاحتجاج السياسي على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية إلى فعل ثوري يقوض أركان النظام الحاكم.
  5. أن التغيير الحقيقي الذي يمس صميم الحياة السياسية، مصححا للاختلالات البنيوية التي شابتها، لا يزال مؤجلا.
  6. أن موريتانيا مرشحة لأكثر من سيناريو تغيير : فبحكم طبيعة نظامها السياسي ومكانة ودور المؤسسة العسكرية في الحكم منذو 1978 يمكن الحديث عن سيناريو الانقلاب المألوف موريتانيا، وبحكم الربيع العربي وتراكم تاريخ من المظالم السياسية والاجتماعية وغياب التنمية، يمكن أن نتحدث عن سيناريو الثورة الشعبية، كما يمكن أن نتحدث عن سيناريو التوافق عبر حوار وطني يفضي لمجلس تأسيسي يضمن مراجعة الدستور بما ينسجم مع مطالب الجميع..

وفي الأخير فإن ما شهدته موريتانيا من حراك سياسي وشبابي مؤشر مهم على الشعور بالحاجة لتصحيح الأوضاع السيئة التي يعيشها هذا المجتمع منذو عقود، والتي فرضتها الأحكام الاستثنائية العسكرية والديمقراطيات الشكلية التي لا تنتج عدالة ولا حرية ولا كرامة.

بقلم الدكتور محمد محمود ولد الصديق

(ورقة مقدمة للملتقى العلمي المغاربي الثاني تحت عنوان: أي واقع للمغرب العربي في ظل الثورات العربية، والمنعقد بتونس بتاريخ 21/22 نوفمبر 2012.)

تعليقات الفيسبوك