خالد مولاي أدريس..فنان الوطن والبؤساء…(بورتريه)

مع بداية تشكل العاصمة الفتية انواكشوط عام 1975 ولد الطفل العبقري خالد مولاي أدريس في مدينة “بوش” كما كانت تسمى أنذاك قبل أن يطلق عليها مدينة (R) التي تقع حاليا بين مقر قيادة الحرس الوطني  وعيادة المجمعات (اكلينيك) جنوب سوق العاصمة.

درس الفنان خالد مولاي أدريس الابتدائية في المدرسة رقم 5 بالعاصمة انواكشوط، ولم تكن علامات الذكاء تخفى على معلمه.. ولم تكن ملاعب أقرانه الصغار تلهيه عن رسم ما

يخطر على باله من أشياء بسيطة أحب أن يرسمها بريشته النقية وخياله الفتي.

بدأ الفنان التشكيلي ورسام الكاركاتير خالد مولاي أدريس منذ نعومة أظافره ممارسة الرسم في دفاتره المدرسية وعلى سبورة القسم وحائط المدرسة، وعلى جدران منازل الجيران، ولم يترك جدارا ولا ركنا في منزل أهله في مدينة “بوش” إلا ورسم عليه بعض الرسوم البريئة التي يوحي بها إليه خياله الصغير.

وكانت تلك الرسوم تغضب أمه وتعرض جسمه النحيل للضرب المؤلم، ولم تكن الأم التي كانت تحافظ على نظافة المنزل تتحمل رؤية أوساخ الطباشير بشتى ألوانها تملأ جدران غرف المنزل، وكانت تعتبر حبه للرسم أمارة للكسل وعدم النباهة.

لكن أم خالد لم تكن تعلم أن طفلها الكسول وغير النابه -في نظرها- هو أحد عباقرة موريتانيا.. فنان مبدع لا يشق له غبار.. عبقري الملكة والأنامل.. مرهف الحس.. واسع الخيال..عميق النظر.. جميل الرؤى.. هو الشاعر الصامت.. الذي يبدع الروائع دون أن يسمع له صوت..

هو الانسان الذي يشقى ويتعذب من أجل سعادة ألآخرين.. هوالرسام القادر بريشته الصغيرة على تحويل الأشياء البسيطة إلى عالم في منتهى الروعة والجمال.

تجاوز خالد مع مرور الزمن مراحل الطفولة والمراهقة…، وعرفت أمه الحنون أنه ليس كما كانت تظنه.. لم يتقاعس يوما عن دراسته، بل كان تلميذا مجتهدا ومتفوقا على أقرانه وزملائه في الدراسة، رغم أنه كان وحده من بينهم المولع والمهووس بممارسة فن الرسم طوال مراحل دراسته، وكان يعطي لهذا الفن من وقته أكثر مما كان يعطيه لدفاتر وكتب الدراسة.

حصل خالد من جامعة انواكشوط على شهادة المتريز في علم النفس وعلم الاجتماع، وساعده هذا التخصص على تعميق أفكاره ورؤاه حول فن الرسم الذي يستمد جذوره من علم النفس والاجتماع ، وكما رفع هذا التخصص من اهتماماته من الجانب الانساني بوصفه فنان يتألم لواقع البؤساء ويسعى إلى سعادتهم، وقد مكنه هذا التخصص أيضا من مساعدة

المراكز والهيئات التي تأوي أصحاب الاحتياجات الخاصة (المعاقين عقليا)، فكان هو خير من يساهم في تربية وتعليم أفراد هذه الفئة البائسة من المجتمع الموريتاني.

ولم تتوقف مشاركة الفنان خالد في مساعدة المراكز والهيئات التي تأوي هذه الفئة من المجتمع الموريتاني على ما يقدمه لها من جهوده الكثيرة ومساعيه النبيلة، بل قام بتأليف ونشر كتاب حول التربية الخاصة لذوي الاحتياجات الخاصة، كتاب قيم حقق نجاحا كبيرا ونال اعجاب المتخصصين والمهتمين بهذا الجانب الانساني.

لمع نجم الفنان خالد وذاع صيته في السنوات القليلة الماضية داخل الوطن وخارجه عبر معارض الفن التشكيلي والرسم الكاريكاتيري، وحصل على الكثير من الجوائز والشهادات التقديرية داخل وخارج موريتانيا.

تشكل لوحات الفنان خالد مولاي أدريس عالما فريدا كله جمال وإبداع، وفي لوحاته التشكيلية تمتزج شتى مدارس ومذاهب هذا الفن الراقي.. ففي لوحاته يتعانق الليل مع النهار، و البحر مع الرمال، والفجر مع الغسق… وفي لوحاته يتناغم الحاضر والماضي في أبهى تجليات دروب الأزمنة، و عبق التاريخ الفواح.. في لوحاته تفتح الطبيعة أحضانها للحياة.. وترقص الرمال الزاحفة على ايقاع أنغام ريح السموم.. ويشرب أديم الأرض سراب الصحاري الموحشة.. في لوحاته تسكب الثكالى والأرامل واليتامى الدموع على فقد الأحبة.. في لوحاته تضرب الخيام الموريتانية و يقام الشاي الموريتاني و الطرب الموريتاني… بل تشكل لوحاته معرضا و فضاء شاسعا للطبيعة الموريتانية بكل صورها وأبعادها، وتنفض لوحاته غبار أتربة القرون الغابرة عن حضارة وتراث بلاد شنقيط العريقة.

 

ويتميز الفنان خالد مولاي أدريس عن غيره من ممارسي هذا الفن الجميل بموهبة خلاقة يصبغها خيال “غجري” الأسفار والسكون، وحس مرهف المشاعر والأوتار … لوحاته دفق من الأحاسيس الملونة.. بسيطة في شكلها..عميقة في أبعادها.. ريشته ترسم بالدموع أحيانا وأحيانا ترسم بالدماء.. ريشته رغم صغرها تطاول عنان السماء لترسم حليب المزن لليتامى والبائسين من أطفال موريتانيا وفلسطين

والعراق.. بل على كل أطفال المعمورة البائسين توزع ريشة خالد الحليب والحنان و البسمات… ريشته لا تنحني إلا عطفا على البؤساء.. ولا ترتفع إلا لتمسح دموع البؤساء.. ريشته ترسم للوحدة الوطنية، والعربية والإفريقية.. ترسم الخير والسعادة للجميع.. ريشته أداة للنهوض والبناء.. أداة لتحقيق الحرية والعدل والسلام.

وأما فن الكاريكاتير عند الفنان خالد مولاي أدريس فإنه لا يقل أهمية عن فنه التشكيلي، تعبيرا و فكرا وقيمة، فرسم الكاريكاتير عنده يشكل “جبهة” للنضال والدفاع عن حقوق المحرومين والمظلومين بشتى الأساليب الهادفة والساخرة.

ولم تترك ريشة الفنان خالد قضية تمس واقع البؤساء في هذا الوطن وخارجه إلا تناولتها بأسمى وأرقى أدوات التعبير عند هذا الفن النخبوي الذي لا تزال رسالته قاصرة دون الوصول إلى المتلقي بالشكل المطلوب في موريتانيا، رغم أن فن الكاريكاتير هو أهم الفنون في مختلف المجتمعات المتقدمة.

يتربع الفنان خالد مولاي أدريس اليوم على عرش مملكة الفن التشكيلي في موريتانيا، وليس فقط رئيسا لاتحاد الفنانين التشكيلين الموريتانيين، وهو ناشط في المجتمع المدني حول حقوق الانسان، ويمارس عدة مهام أخرى تصب كلها في خدمة الوطن والمواطنين الموريتانيين.

نظم الفنان خالد في انواكشوط عشرات المعارض الفنية بالتعاون مع وزارة الثقافة و مع بعض الهيئات الداعمة للفن التشكيلي، ولاقت أعماله الفنية نجاحا كبيرا في موريتانيا وفي غيرها من بلدان العالم التي وجهت له منها الدعوة للمشاركة في معارضها.

يقول الفنان خالد عن نفسه: “احترفت الفن ليس كوسيلة ترفيه فقط، بل كوسيلة تعليم وتثقيف وتغيير للعقليات والمحافظة علي تراثنا الوطني.”

ويضيف خالد في حوار قصير جمعني به عبر الفيس بوك: “بصراحة كنت مهووسا بالرسم في صغري حتي أني كنت لا ألاعب أقراني كثيرا..كان هناك العالم الخاص بي وهو الممارسة والتلذذ بالرسم والاستمتاع به، وتعمقت فيه أكثر بعد تخصصي في تربية ذوي الاحتياجات الخاصة حيث انه كان السبيل الوحيد لاستنطاقهم والتعبير عنهم وتعبيرهم من خلاله.”

و يبدي الفنان خالد شغفه واهتمامه بالفنون الجميلة الأخرى وخاصة الشعر الذي يحبه ويعشق قصائده ويقول عنه : “أحب الشعر وأكتب الخواطر، وأعشق القصيدة العمودية لأنها تشعرني بالحرية والسلاسة، وأقدر جدا الأفكار ألا تقليدية.”

 

بقلم حسني ولد الشاش

تعليقات الفيسبوك