القدس كما زرتها في عام فائت- كنت مفاوضا للإسرائيليين (الحلقة الأخيـرة)*

باستثناء القدس الشرقية التـي تقع في المناطق المدرجـة في تصنيف (ج) فإنه بموجب اتفاقيات أوسلـو الانتقالية لعام 1995، كـان يتوجب على السلطة الوطنية الفلسطينية بسـط سيطرتها الأمنية والإدارية بشكل كامل على المناطق (أ) والتي من ضمنها رام الله والبيرة، نابلس وبيت لحم ثم اريحا وغيـر ذلك مـن مدن الضفة الغربيـة، غيـر أن الخروقات التي طالت اتفاق اوسـلو واندلاع النزاعات بين الفصائل الفلسطينية منذ العام 2007، جعـل سلطات الاحتلال الاسرائيلي تعيد انتشارها الأمني والإداري داخل أجـزاء الضفـة الغربية فبعدما كانت المناطق (ب) تخضع أمنيا لإسرائيل وإداريا للسلطة الفلسطينية، مدت سلطات الاحتلال سيطرتها لتطال كافـة المناطق حتـى باتت نواة الدولـة الفلسطينية مقيــدة الى ابعد الحدود ومن مظاهـر ذلك أن زاد تكبيـل المـدن الفلسطينية وخنق سكانها قمعا وتنكيـلا من لدن دوريات وحواجز الاحتلال،.. هنا أدركت كثيرا حجـم الفسحـة والدعـة التي يرفـل فيها قطـاع غزة منذ غــادره الاحتلال الاسرائيلي.

بودي أن أكتب للقراء حـول زياراتنا لكل مناطق الضفة الغربيـة طـولا وعرضا؛ وكيف لبَيْتُ أنا و زميلي ألَمينْ عبْدُو في ظل وضـع غير مواتٍ دعـوة لم تكن لتتكرر فشاركنا في سهرة وسـط مدينة رام الله الى جانب أناس كانوا يسـرقون من حيـاتهم لحظات للاستمتاع بشكل لربما لا يتكرر كثيـرا !؟.. نعـم أود ذلك –عزيزي القارئ – ولك أن تتخيل كل ذلك فالمساحـة المخصصة لهذه المقالة لا تسمح بكثيـر من ثرثرة قلـم يتحركـ كضيف علـى شعب جريـح.!

اعتـدت أن أتحاشـى الزج بنفسـي في جزئيات الاستقبالات الرسمية و البروتوكولية، لكـن يهمنـي هنـا التأكيد على ما لقيناه من رحابـة صـدر رئيس السلطة الفلسطينية السيـد محمود عباس الذي تلقـى بابتسامة عريضـة كلمة جافـة حمَلْتُهُ فيها المسؤولية عن تراجع اهتمام الأفارقة بقضية فلسطين ولـم يثنيه فحوى مقارنتي لجموده تجاه القارة السمراء برحلات الزعيم ياسـر عرفات القاريـة؛.. نواكشـوط، فدكار ثم آبيدجان فبقية العواصم الافريقية تباعا..! عن الانصات باهتمام لكلمتـي والتـي همس في اعقابها لمستشاره واعتقـد أنه السيـد الطيب عبدالرحيم طالبا منـه الأخذ بما أوردته على محمـل المتابعـة..! وهكـذا نَقَـلَ تِلفزْيُون فلسطين مُداخلتي أمام الرئيـس كاملة فيما بعـد عـرفت أن الكلمـة تلقفتها ساكنة فلسطين بكثيـر من الود مما مكنني من كسب احترام أولئك المواطنون اللذين سألتقي بهم في المحطات الموالية؟!..

قـد تكـون المشاهـد التي وقفت عليها مألوفـة في بعض جزئياتها لدى زائر قــدم لتـوه من موريتانيـا حيث لا يزال اخضاع الناس للعبودية والدونية والعنصرية مألوفا إن لـم يكن ثقافـة مجتمعيـة سائدة، وعلـى كل حـال فإن اسناد الضعيف على الضعيف سوف لا يؤدي الى سقوطهما معا، كقاعـدة حتمية في عالمنا المعاصـر، فالتضامن بيـن الشعوب المظلومـة بأي حال من الأحـوال وبغض النظر عـن انتماءاتها القومية واللونية يجب ان يكون قاعـدة ثابتة وقابلـة للتشكل. في هذه البقعـة من ارض فلسطين التي زرتها شاهـدت العديد من المشاهـد التي سيأتي اليوم الذي اكتب فيـه تفاصيلها بشكل مطول ومفصل و قـد نكمل فيه وصف الجـزء الأخر من الكأس حيث تزدهـر المعالم العمرانية الجميلة والمواقع الأثرية والمقدسـة بما في ذلك المعالم الدينيـة الهامـة ككنيسة القيامة والمسجد العمـري حيث أصـر عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) على ان يؤدي الصلاة خارج الكنيسـة، وكذلك حكايات العشـاء الأخيـر طبقا للتأريخ المسيحي أو حين يختلط المقدسيون من أتباع الـديانات الإبراهيمية داخـل أزقـة أسـواق المدينة العتيقـة دون انتباه لحاجـز الديـن أو السياسـة، غيـر أنـني سأركز في هـذه المقالـة على رحلـة العـودة إلى الأردن عبـر جسـر الملك الحسين أو جسر أللَنْبِي (Allenby Bridge) كما يفضل الاحتـلال تسمـيته وهـو جسـر تاريخـي يقع على نهـر الأردن ولربما يكون المتنفس الوحيـد لفلسطينيي الضفـة الغربية تجاه العالـم الخارجي.

فـي حـدود الرابعـة من مساء الأربعاء؛.. غادرنا رام الله  ضمـن احــدى سـيـارات السلطة وكان جسـر الملك الحسين هـو وجهتنا مرورا بمدينة أريحا.. كنت في المُقدمـة الى جانب السـائق وبمعيتـنا كالعادة الزميلين أَلَمِينْ عَبْدُو وعَبْدُاللهْ أتْفَاغَالْمُخْطارْ..، كان الأخيـر بمثابة عميـد للوفد الموريتاني فهـو الى جانب قدمه في المهنة يحتل موقعا قياديا أعلـى من كلينا في هرم رابطة الصحفيين الموريتانيين بينما كنت مجرد مستشار لرئيسها فـي تلك الفتـرة، كما أنه ينتمـي للجيل الأول من الصحافـة الشعبية الساخـرة حيث أدار لفترة طويلة جريدة “شي إِلُوحْ أفْ شي”، لكنني في الواقـع كنت القائـد الفعلي للوفـد الموريتاني طيلة المهمة وهـو ما جلب علـي التَنْكِيتَ اللاذع من لدن العميـد الذي جاءت انتقاداته الوديـة تماما لتتناغم مع رؤية وطريقة اهَلْ لَخْيَامْ للأشخاص، ومـع ذلك فقـد كنا فريقا منسجما ومتفاهما الى أبعد الحدود.

مع بدء تحركـنا أطلـق عَبْدُاللهْ أتْفَاغَالْمُخْطارْ العنان لنكاته الطريفات بينما كنا نحـن نبادله القهقهات و أحيـانا الابتسامات وقـد نرد بنُكت باَيْخَه كما يقول المصريون.، ومـع ذلك يجب أن نقر بأن لعميدنا ملكة خاصـة في ترتيب وتأليف وصناعـة الضحكـ حتى في مكان مزدحم بالمآسي والأحداث الدامية كفلسطين، ولربما تكـون هذه الخاصيـة الفريـدة في المجموعة الموريتانية قـد أثارت فـي التساؤل هل بموجبها سيتم استهدفه من قبل سلطات الاحتلال؟ لا أعرف على وجه اليقين لكن تابعوا جيـدا الحكايـة حتـى النهايـة!.

خلال تجاوز رَتْـلِ السيارات التي تُقـل أعضاء اتحاد الصحفيين العرب (مقـره في القاهـرة) لأول حـاجز لدى الخروج من مدينة رام الله، أشـار جنود الاحتلال على سائقنا بالتـوقف، وفـي الحقيقة فالسائـق ليس شخصا عاديا بل إنـه أحـد ضباطـ الأمن الفلسطيني ثـم سألـوه عـن وجهته فرد بأننا نتجـه مع الوفـد الى مدينة أريحا… ثـم طلبوا مني شخصيا الباسبـور ومن بعدها جاء الـرد سريعا: “… لَفْ..لَفْ..لَفْ..!”، يعني عُـدْ.. عُـدْ من حيث أتيتَ، كان أمـرا لا يقبل المساومـة وليس هنالك من حل أمامنا سـوى العـودة الـى الفنـدق، فهـل كنا مستهدفيـن دون غيرنا من الوفـد؟ لا أعرف على وجه اليقين!.

بالنسبـة لرجل الأمن الفلسطيني لا غضاضـة في ذلك حيث توجـد طريق بديل يمكنها أن توصلنا إلى مدينة أريحا في مـدة لا تتجاوز الثلاثين دقيقـة دون ان نتعـرض لمـزيد من عراقيـل الاحتلال، وهكـذا قطعنا المسافة التي تفصل بين المدينتين والتي تزيد قليـلا علـى الـ30 كلمترا، حيث أدركـنا الاستقبال الذي خصصته بلديـة أريحا قبـل أن يواصـل الوفـد رحلته في باصات نقل عاديـة تجاه جسر الملك الحسين؛ ففي الواقـع انتهت سيطـرة السلطة الفلسطينية عند حدود البلـدة التي لا تبعـد عن الجسـر سوى ب10 كلمتــرا تقريبا.

من اجل انهاء اجراءات الخروج من معبر المسافرين بجسر أللَنْبِي (الملك الحسين) اصطف اعضاء الوفـد من ممثلي أغلب الدول العربيـة في طابور واحـد في انتظـار مراجعـة  سلطات الهجـرة الاسرائيلية لوثائق كل واحـد علـى حـدة،… وهكـذا أجرينا مضطرين مخالصات الخروج التـي لم يجري ابلاغنا بها مسبقا ولم يطلب منا دفعها إبان دخولنا من نفـس الجسـر إلى الضفـة الغربيـة، وهـو ما يضعه أتْفَاغَالْمُخْطارْ ضمن أحْجِيات ومسرحيات شارلي شابلن حيث الدخـول “بِبَلَاشْ يَا عَمْ والخُروجْ يَكُون الدَفْعُ فيه نقْـدًا وفي الحالْ”..،

في حدود الساعـة السابعـة مساء كنت أقف الى جانب زميلي أَلَمِينْ عَبْدُو نرْقُبُ بفزع انتهاء حديث متقطـع بالإنجليزية يجمع زميلنا بموظفين اسرائيليين لا يجيـد أيا منهما العربية..، كنا نستمع من بعيـد لمحاولات عَبْدُاللهْ أتْفَاغَالْمُخْطارْ للإجابة على تساؤلات موظف الجسـر : من هـي موريتانيا؟ وأين موقـعها الجغرافي؟ كما كنا نتسقط تهجئة أحد هؤلاء للإسم العائلي لزميلنا (..أ.. تْ.. فَا.. غَ.. الْ.. مُ.. خْ.. طا.. رْ..)، ثـم وبـدون مقدمات وضعـوه رهـن الاحتجاز!!. لماذا ؟.. لا أحد يعرف!

ثـم مَثلَ من جديد زميلنا َلَمِينْ عَبْـدُو فتعرض لأسئلة أخرى كالوظيفة و اسم الأم قبل ان يـؤمـر باتخاذ مقعده الى جانب زميله حيث جلســا على مقاعـد مُجمعة على شاسيهات أرضية!!؟، بدا التصرف كهذا محيـرا إن لـم يكـن مستفـزا !، تقدمت لأقف أمام شباكـ نفس الموظف فأعــاد توجيه نفس الاسئلة قبــل أن يشيـر لي آمرا : “يلاً..يلاً”!؛ هل كنت اكثـر مهارة من زملائي في اتقان اللعب مع الاسرائيليين أم أن القهوة التي احتساها الموظف توا قـد عـدلت من مزاجه يضطره  لإزدراء الموريتانيين؟؟ و ربما شيء آخر.!

بالنسبـة لـي كانت هـذه المحطـة مهمـة جدا فـي حياتي حيث شكلت عـن قرب الاختبار الحقيقي لمـزاعم التضامن العـربي، كما أعادت المعاملة التي كنا عرضـة لها من قبل الاسرائيليين الـي الثقـة في حكماء موريتانيا فقـد نُقَـل عـن الفنان الموريتاني الشهير سيد أحمد البكاي ولد عَوًه رده الطريف على صحفي كان يسأله عـن أحوال الأمـة العربية؟، فأطنب الفنان الموريتاني شكرا لقبيلة أولادْ أمْبَارَكْ ثُم أستطرد يقـول “..معْنَاهَا يا أخـي لَعْرَبْ مَاتْلاَوْ خالْقِينْ أُورَ أوْلادْ أمْبارَكْـ..!”، إنه من المؤسف أن نقـول أن هذه المقولة تنطبق بالتمام والكمال على الوضـع الصعب الذي وجدت نفسي عرضـة له مما يُحَتِمُ علـي التصرف من أجـل معالجته وبسرعة. وأمـامي  وسيلتان أن أتصـل بالسلطة الفلسطينية وكان المكـان لا يتوفـر على التغطية الكافية بتأمين الاتصال، أو استبقـي أعضاء الوفد المرافق لـي وهـو ما يتعـذر كذلك فقـد صعد الجميع على متن الباص السياحـي VIP الذي كان في انتظارنا وأمنوا مقاعـد رحلة العـودة الى عمان (لا تبعـد عـن الجسـر سـوى بالأربعين كلمتـرا) أحـد هؤلاء الزملاء توجـه الي ناصحا “دعنا نغادر أولا إلى عمان ومن هنالك نـرى كيف نتصـرف، فاسرائيل لا أحد سيـعرف ما تفكر فيه..!!”، بالمختصـر لـم يكن هؤلاء على مستـوى التضامن المطلوب بعدما تخلوا عن زملائهم الموريتانيين! “اللهْ لا إفَصْلْـنً فِيهَمْ”، وحــدها تلك السيـدة الأردنية الماجدة بنت النمري وكنت أشرت إليها في الجزئين السابقيـن هـي من قرر انزال حقيبته والبقاء الى جانب الموريتانيين، ولأننـي أحفظ لها بالجميل فسأكــرر شكـري لها كلما جدت مناسبة للتذكـر. وحتى لو اكملت رحلتي الى عمـان سيـرا على الأقدام فما كنت لأقبـل بالسفـر في ذلك الباص الذي يقلُ هكذا أشخاص.

كان بإمكاننا رؤيـة زميلينا وهـم على مقاعد الاحتجاز واحيانا نتبادل اشارات بالأيـدي ولا أدري إن كان أحدنا يفهـم ما يريده الآخـر أو يعتمل في خاطره،.. كان الاثنان في وضـع لا يحسدون عليه وليـس لي من حول أو قـوة أواجه بها جنـود الاحتــلال أو موظفـي الجسر المتجهمين. يقـال أن “اقوى السبة اضعفها” فقـد انشغلت أنا وصديقتنا ماجدة في محاولات مضنية لاستجلاء حقيقـة الوضع قبل أن يتطور الى الأسوأ ؟ وكيف يمكننا معرفة طبيعة المضايقات التي يخضع لها زملاؤنا؟ الجواب لا يملكه أحد فلا يوجـد من يجـرؤ على دس أنفه في شؤون سلطات الهجرة الاسرائيلية!!. ومن الصعب أن أتمكن من الاقتراب من التحدث الـى الاسرائيليين عموما حيث تفصـل القضبـان بيننا واياهـم، كان أكثـر موظفي الجسـر تعاونا معـي هو صاحب شباكـ بدا كأنها مكتب ارشاد للجمهور سألته عن مصير صديقي المحتـجزين لديهم فأجاب بصـوت خفيض “I do not know”.

بعـد تجاوز الوقت حدود العاشـرة ليلا، كـان المكان قد بدأ يغط في صمت مريب فخرجنا الى محيط الجسـر حيث لـم يعُـد هنالك أي حركة للسيـارات فيما انحصر وجود المارة الـى ابعد الحدود، على الحائط كان يستنـد شخص ما ويشعل سيجارته فبادرناه بالتحيـة ! كان سائقا اعتاد القـدوم في اوقات كهذه لتصيـد زبناء من نوعية اصدقائي “يجب ألا تقلقوا قبل الساعـة الحادية عشـرة والنصف، فلو تجاوزوها فهـم معتقلون وسيتم ترحيلهم الى السجون الإسرائيلية..؟ و الأرجح ان المزاج الاسرائيلـي هـو الذي يحتجز أصدقاءك وبالتالي سيفرج عنهم قبل الوقت المعلوم” قالها فتسللت على الفـور الى وجوهنا آمال عراض بقرب انفراج الضيــق، وقـد يصـدق على السائق الأردنـي هـذا قـول المثل العربي القديـم “.. يأتيك بالأخبار من لم تزود”، والمفارقـة في هذه الحكايـة أن اصدقائي خرجوا بعد ذلك بقليـل تباعا ليحملنا نفس التاكسـي الى الحدود الأردنية.

نقلت اليكم الرحلة في ثلاثة اجزاء كما هـي ولـم اعمـل على اضافة تعاليق على هوامشها، ومـع ذلك ان كنت نسيت أو زدت في التفاصيل فبإمكاني الشخصيات المذكورة في مقالة “القدس كما زرتها في عام فائت”، اجراء التصويب اللازم أو التنبيه الضروري.

تحياتي

*بقلم عبيد إميجن (اعلامي ورئيس منتدى الأواصر)

تعليقات الفيسبوك