موريتانيا: التنوع القومي.. وآفاق العيش المشترك*

تتعرض بلادنا من حين لآخر، لموجات من تفجر مشاعر التنافر والعداء، وانتعاش خطاب الكراهية والتحريض والتخويف بين الهويات الثقافية المختلفة، المكونة للحمة الإجتماعية الوطنية.

وتغذي هذه المشاعر المختلطة عوامل متعددة مثل استحكام الجهل وقلة الوعي في أوساط العامة، وانتشار التخلف والفقر، وتقاعس وارتهان النخب بسبب تراكم الإحباط والخيبة السياسية إزاء فشل مشروع الدولة الوطنية في النهوض بمسؤولياتها لتدبير الشأن العام. ولا يعدم كذلك، أن تشارك في تغذية هذه الهواجس أياد خفية، تحركها قوى غادرة أو طامعة في تفكيك أوصال هذا المجتمع، والهيمنة على مقدرات البلاد في سياق لعبة الأمم.. وتجزئة المجزئ.. وتقسيم المقسم.

في هذا الوقت بالذات.. وفي هذه اللحظة المفصلية الفارقة، أعتقد بأن من الواجب أخلاقيا، ووطنيا، وسياسيا على النخب في هذه البلاد، أن تضطلع بدورها التنويري الرائد، بعيدا عن نوازع الإستغلال السياسوي المنفعي للموضوع، من أجل التصدي بجدية وحزم لمخطط تفخيخ  الهويات، واستغلال ثغرات التنوع القومي والثراء الثقافي الذي تتمتع به البلاد، لضرب الوحدة الوطنية والإجهاز على ما تبقى من السلم الأهلي.

لذا، ينبغي العمل على إبراز الحقيقة بلا مواربة.. والعمل على بسط سلطان المعرفة، من خلال تعميق النقاش الموضوعي حول حقيقة هذا التنوع القومي عبر التاريخ، وتشخيص واقعه الراهن، من أجل استشراف آفاق العيش المشترك، صونا لتلاحم مجتمعاتنا، وترميما لبنياتها الثقافية المحلية، بما يسهم في تعزيز استقرار البلاد وتماسك شعبها، وسط عالم يمور بالأزمات والفوضى والتشرذم…

أعتقد بأن هذا المبتغى، إنما يتأتى من خلال تنمية وتطوير البحث العلمي الرصين في مجال علم الجينات المتحجرة، الذي هو مزيج بين الأنتربولوجيا وعلم الوراثة، ودراسة أنظمة “الجينوم” الوراثي المقارن لمختلف المجموعات السكانية، والاستثمار في تعزيز آليات التواصل، ودراسة وإبراز المخزون المشترك الحضاري  والثقافي والتاريخي والسوسيولوجي بين مجتمعاتنا المحلية، وإعادة قراءته بشكل إيجابي، يعيدنا أولا إلى المشترك المرجعي الرئيسي بين الناس جميعا: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبيرٌ» (سورة الحجرات الآية13).

 

فقد وقعت المجتمعات الإسلامية عموما في مأزق تاريخي عندما خانت «الأمانة»، التي هي مفهوم يتأسس على «النظرية الميثاقية» التي تقوم على «مُواثقة» تمت في عالم الملكوت، وحصلت بين الإنسان وخالقه، وليس بين الإنسان والإنسان، كما في نظريات «العقد الإجتماعي» الكلاسيكية لدى فلاسفة التنوير الغربيين، كما يعتقد ذلك أستاذنا الفاضل الفيلسوف المتصوف البروفسور طه عبد الرحمن، أطال الله بقاءه.

 

وتنقسم هذه «المواثقة»، التي هي أولا وقبل كل شيء عقد روحاني، وليست مجرد عقد اجتماعي، إلى ميثاقين رئيسيين هما: «ميثاق الإشهاد» الذي أقرّ فيه الإنسان بربوبية خالقه لمّا تجلّى له بأسمائه الحسنى؛ و «ميثاق الائتمان» الذي حمَل بموجبه أمانة القيم التي توحي بها تلك الأسماء الحسنى.

 

ثم، نعود بعد ذلك إلى المشتركات الثانوية الأخرى تباعا.. حيث لا بد أن تظهر الحقيقة بين عتبتين. وهو ما يمكن تسميته بمنهج “النسبية الإجتماعية” و”النسبية التاريخية” في دراسة مجتمعاتنا، حيث يصبح التعدد والإختلاف غنى ونعمة.. والانسجام والوحدة مكسبا وقوة.. وحيث لا تذوب الهويات الثقافية في الأمميات الشعوبية المائعة، ولا تغرق في الخصوصيات المحلية الضيقة، بشكل يشل صيرورة مجتمعنا التاريخية، ويجعله يتوقف عن الإغتناء والتفاعل الحضاري عبر إرادة واعية لتحقيق وتطوير العيش المشترك.. الذي هو سنة الحياة التي أراد الله تبارك وتعالى أن تكون كذلك.. وهو الناموس الذي سارت عليه الأمم والشعوب في تشكلها وتطورها التاريخيين..

فلا بد إذن، من مقاربة مرنة للموضوع، تلتمس أحسن المخارج، دون أن تتجاهل أسباب العثرات والكبوات والمآسي.. وتبحث في تاريخنا عن مستندات تبرهن على قوة الرغبة في العيش المشترك، وعلى الجذور المشتركة البعيدة والقريبة التي تأسس عليها التعدد الثقافي والقومي في بلادنا ومحيطها الجغرافي والبشري.. ولا بد من التساؤل كيف أغرت هذه الصحراء الساحرة -على مر العصور- أمما وشعوبا في غاية الاختلاف.. بالهجرة إليها.. فكانت تحتضنهم.. وتؤويهم.. وتحميهم.. وتسهل التعارف والتبادل والتمازج فيما بينهم، لتصهرهم من جديد.. وتوحدهم ضمن فضاءات شاسعة.. وعبر الزمن.. من خلال ديناميكية التدافع، والتعاون، والتفاعل الثقافي والحضاري.. فيتركون وراءهم آثارا، وشواهد ومحكيات، ظلت شذرات منها باقية.. رغم عوادي الزمن.. توثق أساليب حياتهم، وطرق معيشتهم.. وتداول معارفهم..

 

ولا بد أن تبرز هذه المقاربة النماذج الجيدة للتعايش وحسن التآخي، من خلال الدراسة الميدانية لتاريخ وسوسيولوجيا المعايشة، والمجاورة، والمساكنة، والمعاشرة والمصاهرة والزواج القرابي.. وأن تشيد بالمآثر الجيدة والأفعال الحميدة.. وتحاول إلهام شبابنا اليوم، وكذا أجيال المستقبل، بإعطائهم القدوة المثلى، لتخلق منهم أبطالا معاصرين، ضاربة أقدامهم في الأصالة، لكنهم متحررون ويعيشون بدون عقد.. بارعين في علوم ومعارف عصرهم، ومؤهلين بحكم امتلاكهم لغات التواصل العالمي والقدرة على بناء وتطوير العلاقات مع الآخرين في هذا العالم المعولم.. ويتمتعون في ذات الوقت بأخلاق عالية، ويؤمنون بمبادئ ومثل، يعملون على تجسيدها بالعمل والمثابرة.. وينشدون الخير.. والعدل والإنصاف.. والسلام لكل أبناء وطنهم، بل ولصالح البشرية جمعاء.

لقد ظل التنوع القومي والثقافي السمة الأبرز للسكان الذين استوطنوا فضاء موريتانيا الحالية، منذ أوائل الأقوام والشعوب، ذات الأصول، والألوان واللغات، والأديان المختلفة، التي عرفتها البلاد عبر العصور المختلفة. وقد اشتق اسم موريتانيا الحالية من كلمة “موريطانيا” Maurétanie وهي تسمية قديمة قرطاجية ثم يونانية-لاتينية، كانت تطلق على شمال إفريقيا عموما والمنطقة المغاربية، حيث يعرف سكانها بـ “الموريين “Maures.

 

 

ولئن كانت علوم الأركيولوجيا والأنتروبولوجيا والأتنولوجيا ما تزال تضن علينا – حتى الآن- بمخرجات دقيقة حول تاريخ “الإجتماع الإنساني” في موريتانيا الحالية، بينما يختلف المؤرخون في تأصيل تاريخها الاجتماعي والثقافي حسب عدة نظريات، إلا أنه يعتقد بشكل راجح بأن قبائل “گنار” كانت من أقدم المجموعات السكانية التي عرفت بالاسم في هذه البلاد. وهي ربما تشكلت من بقايا أخلاط بشرية مختلفة قديمة جدا، ظهرت في البلاد منذ الألف الخامسة قبل الآن، وانتشرت خلال العصر الحجري الجديد، كما تدل على ذلك آثار ورسوم ونقوش صخرية مختلفة في “آدرار”، و”تيشيت”، و”ولاته” و”اكجوجت” و”انواكشوط”، وفي مناطق أخرى من البلاد.

 

ويبدو أن بقايا تلك المجموعات البشرية القديمة قد امتزجت  لتشكل معا ملامح أقدم “أمة” -معروفة حتى الآن- استوطنت هذه البلاد، حيث شكل أفرادها، من ذوي البشرة الداكنة، أسلاف الموريتانيين الحاليين، رغم أن تمايز ألوان بشرات السكان الأوائل في موريتانيا ليس عنصرا حاسما في تحديد أصولهم المختلفة، لأن اكتساب لون البشرة يفترض أن يكون قد تم عبر مسارات معقدة، وعلى مدى فترات زمنية طويلة نسبيا، كما لعبت فيه أدوارا مهمة، طبيعة المعطيات الجغرافية، والبيئية والمناخية، إضافة إلى عوامل التهجين البيولوجي، عبر تمازج المجتمعات المختلفة من خلال التزاوج فيما بين أفرادها سواء في حالة الحرب أو السلم.

 

ويفترض بأن مجموعة “گنار” هذه، كانت تعيش على الصيد البحري والقطف في مواقع تسمى “قمنورية گنار” يرجح أن تكون على ساحل المحيط الأطلسي من جهة الشمال، الذي ربما عبره البعض من تلك المجموعة ليصل إلى جزر الخالدات، مشكلا بذلك النواة الأولى لسكانها القدامى الذين يعرفون بـ “الكناريين”.

 

في ما بعد، التحقت بقبائل “گنار” هجرات “أمازيغية” قادمة من شمال إفريقيا، تذكر الأدبيات بأن “الاحتراق” قد غلب على بشرتها بسبب كثرة التعرض للشمس أثناء ممارسة الزراعة، فسماها الباحثون بـ “الأثيوبيين” أو “الأحباش”. ومن بين تلك القبائل- كما يذكر الباحثون- “إثگرن”، و”ايزكارن” و”إيرناكن”، التي اشتهر أفرادها بممارسة الزراعة في الوديان والواحات.

 

ولعل تلك القبائل، التي كانت تنتشر بداية في مناطق صالحة للزراعة، خاصة في جنوب وغرب آدرار، هي التي ربما شكلت، بعد الاختلاط بقبائل “گنار”، النواة الأصلية لمكونة “الحراطين” الموجودة حاليا ضمن مجموعة “الموريين- البيظان” في موريتانيا، قبل قدوم موجات متلاحقة من المجموعات “البربرية” الأخرى، ذات البشرة البيضاء، كان آخرها قبائل “صنهاجة” بمختلف بطونها من “لمتونة”، و”مسوفة”، و”اكدالة”، و”اللمطة”، و”جزوله”، التي استوطنت البلاد في القرنين الثاني والثالث الميلاديين، وهي القبائل التي يبدو أنها أدخلت استعمال الإبل إلى البلاد، لتصبح فيما بعد وسيلتها المثلى للسيطرة على كامل المجال الصحراوي.

 

ولعل كلمة “الحراطين” أو “الحراثين” حسب بعض الباحثين، هي تحريف لكلمة أمازيغية “أهرضنن”، مشتقة من مهنة زراعة البساتين، قبل أن تأخذ لاحقا دلالات أخرى، أكثر تمييزية وإقصائية من منظور سوسيولوجي، داخل السياق المجتمعي الموريتاني، كما في المجال المغاربي عموما.

 

كذلك، كانت مجموعة “كنكارة”، Djangara، أو”أسوانك”Aswanik، أو “سرغل”،Sarakolé  من أقدم التجمعات السكانية التي استوطنت البلاد في وقت مبكر، كما تشير التقاليد الشفوية في “آدرار” الموريتاني إلى تواجدها القديم في المنطقة، من خلال تسمية المقابر القديمة التي تعرف محليا بـ “رياظ لكور”، إضافة إلى بعض المنحوتات الحجرية وبقايا الأواني الفخارية التي تعرف كذلك بـ “قدور لكور”.

 

وترجع الأصول البعيدة لتلك المجموعة إلى سكان اليمن القديم، مرورا بإقامة طويلة في مصر الفرعونية. وربما اشتقت كلمة “أسوانك” من مدينة “أسوان”، التي ولد فيها “ادجينكا يمانينكى”، Dinga Yamaninké الذي هو الجد الأقصى المفترض للمجموعة، قبل أن تهاجر إلى منطقة الساحل  والصحراء، وتؤسس مملكة “واكادو” على تخوم مالي الحالية، قبل حوالي ثلاثة آلاف سنة من الآن، ثم تؤسس بعد ذلك مملكة “غانا” الشهيرة.  وربما تشي الدلالة اللغوية لكلمة Sarakholé أو “سرغل”، التي تعني حرفيا “الرجل الأبيض”، بالكثير حول الأصول القومية البعيدة لتلك المجموعة.

 

وقد وصلت إلى موريتانيا، بعدة قرون قبل الميلاد، مجموعات فينيقية، ويونانية وقرطاجية، يفترض بأن جاليات منها قد استوطنت في مناطق مختلفة من البلاد، بعد رحلة الملك القرطاجي “حانون” التي عبر فيها البلاد، باحثا عن الذهب والملح في بلاد السودان.

 

ومع نهاية القرن الثاني الميلادي، تسربت إلى البلاد مجموعات رومانية محدودة، خاصة بعد الغزو الروماني لمنطقة “موريطانيا” الأمازيغية، وتعرض سكانها للاضطهاد الديني بسبب اعتناقهم المبكر للديانة المسيحية.

 

كما عرفت موريتانيا أيضا، هجرات  شملت مجموعات سكانية مغاربية و أورو-متوسطية من أصول مختلفة مثل “الجيتيليين”، و”البافوريين” و”الموريين”، والنازامونيين، و”الفاروزيين” و”الأستوريين”، و”المارماريديين”، و”المازيقيين”، و”لوتوفاج”. كما تذكر المصادر بأن أول هجرة يهودية قادمة من نواحي برقة بليبيا، وصلت إلى البلاد فِي منتصف القرن الميلادي الأول، وربما استقرت في مناطق بـ “آدرار” في ناحية “وادان”، لعل آخرها كان في حي “أويشاط اليهود”، الذي ما تزال تذكره المصادر الشفوية المحلية.

 

وفي أواخر نفس القرن، انتشر في البلاد شعب “أمازيغي” أبيض مختلط مع الرومان، قادم من شمال إفريقيا، يدعى “الغارامانثس” أو “آغرمان”، واستقرت منه مجموعات كبيرة في “آدرار”، حيث شكلت أول مجتمع مسيحي عرفته البلاد، قبل أن تتعاظم هجرة المسيحيين “الأمازيغ” إلى موريتانيا، بعد اشتداد اضطهادهم من طرف الإمبراطورية الرومانية واتهامهم بالهرطقة.

 

وفي القرن الثاني الميلادي، وصلت مجموعة “فولان” أو”Foullan”، التي تتألف من فئتين، إحداهما من الرعاة الرحل، بينما عرفت الفئة الثانية قدرا من الاستقرار في القرى، بعد أن ارتبطت بالأرض من خلال ممارسة الزراعة في المناطق الوسطى والشمالية من البلاد. وبحسب الباحثين، تعود جذور تلك المجموعة السكانية  ذات الأصول السورية-الليبية، إلى إنسان البحر الأبيض المتوسط ومنطقة الشرق الأوسط، وهي خليط من قبائل “الليبو” البيضاء، قادمة عبر مصر والسودان والنوبة وليبيا، قبل أن تمتزج بأقوام أخرى.

 

ويعتقد بعض الباحثين بأن “فولان” قد وصلوا في نهاية رحلة، ربما قادتهم من نواحي “عكا” بفلسطين، إلى وسط وشمال موريتانيا الحالية، لكنهم استقروا نهائيا في منطقة “فووتا تورو” في وادي نهر السنغال الأوسط، في حدود القرن الثامن الميلادي. وقد استطاع مجتمع “فولان” تدريجيا، وبعد استقرار جزء منه على ضفتي نهر السنغال، استيعاب الكثير من عناصر القبائل الأخرى المجاورة له مثل “سيرير” و”أسوانك”، و”ماندينغ”، و”بمبارا”، وغيرها، حيث ستعرف المجموعة الناشئة تحت مسمى “التكرور”، أو “التكارير”، من حيث جغرافيا التواجد والسكن، وبـ “هالبولارن “Haal-Pulaar’en، من حيث اللغة، حيث تعني الكلمة المتحدثين بـ “البولارية” التي هي لهجة “فولان. ”

 

ومع مطلع القرن الخامس الميلادي، وصلت إلى البلاد موجة من شعب “البافار”Bavars، ذي البشرة البيضاء، وقد اشتهر محليا بتسمية “بافور “Bafour، وهم تشكيلات سكانية ليبية مختلفة، أغلبها من أصول فارسية، وقد سكنوا مدة من الزمن في “موريطانيا” القيصرية، التي تطابق جغرافيا وسط وغرب الجزائر الحالية. واستقر جزء كبير من “بافور” في منطقة “آدرار” الموريتانية، حيث كانوا أول من أدخل ممارسة غرس النخيل والعناية به إلى البلاد، كما تدل على ذلك التقاليد الشفوية المتوارثة حتى اليوم، من خلال بعض الأمثال المحلية الشائعة مثل “أقدم من نخيل بافور”.

 

أما في القرن الخامس عشر الميلادي، فقد بدأت قبائل عربية من بني “معقل” تتوغل ببطء داخل المجال الموريتاني، قادمة من الشمال عبر جنوب المغرب، كان أبرزها بنو “حسان” وذراريهم، الذين أنشئوا إمارات وسلطنات عرفت قدرا من الاستقرار السياسي والإزدهار الإقتصادي قبل بداية الغزو الإستعماري الفرنسي للبلاد.

وفي ما عدا هذه الهجرات الكبرى، وصلت إلى البلاد، في حقب مختلفة من تاريخ تطورها الاجتماعي والثقافي الطويل، مجموعات وآحاد متعددون من أقوام مختلفة: أرمن، كنعانيون، أقباط، يهود، يونان، رومان، إفرنج، زنج (من زنجبار)، عرب، بربر، إلخ. وقد اندمج الكثير منهم في النسيج الاجتماعي للمجموعات السكانية المختلفة في البلاد.

 

ورغم التعقيدات الموضوعية لظروف التساكن والتعايش بين كل هؤلاء الأقوام ذوي الألوان المختلفة، والأصول والديانات واللغات المتعددة، فقد تراوحت ديناميكيات التعاطي المتبادل فيما بين هذه المجموعات من محاولات بعضها بسط هيمنته على البعض الآخر من خلال أعمال العنف والحروب، ومقاومة تلك المحاولات،  وصولا إلى اندماج البعض، واستيعابه من طرف البعض الآخر، مرورا بإقامة تحالفات سياسية، عسكرية ودينية من خلال العلاقات الزواجية والمصاهرة المتبادلة.

 

وبشكل عام، أفضت ديناميكيات التعاطي المتبادل عبر التاريخ، إلى تحقيق مستوى كبير من التعايش بين مختلف المجموعات السكانية والاستقرار داخل المجال الموريتاني. لكن بطبيعة الحال، كان ذلك الاستقرار والتعايش وفق معايير تلك الفترات التاريخية السحيقة، وليس بمعايير اليوم.

 

وقد تجسد التعايش عبر القرون، في منطقة الساحل والصحراء الموريتانية، بين كل من الشعوب الأمازيغية والزنجية-الإفريقية، والعربية، من خلال تمازج اجتماعي وثقافي عميق، حصل على نطاق واسع فيما بين تلك المجتمعات المختلفة، وعلى كافة المستويات.

 

وعلى سبيل المثال، أدى ذلك التمازج من الناحية القومية واللغوية، إلى ظهور مجموعة اجتماعية هي “ماسينا”  “Macena” جمعت بين “أسوانك” السود” والبربر” البيض، حيث كانت لهجة “آزير” “Azeriya” هي اللغة السائدة للتفاهم داخل تلك المجموعة؛ كما نتج عن ذلك التمازج أيضا، ظهور المجموعة الإجتماعية الحالية المعروفة بـ “الموريين البيظان”، من خلال  التمازج بين القبائل البربرية الصنهاجية، والقبائل العربية المعقلية الوافدة من بني “حسان”، لتصبح اللهجة “الحسانية” وسيلة التفاهم بين أفراد هذه المجموعة.

 

لكن -كما أسلفت- لم تكن ظروف وشروط ذلك التعايش، من النواحي السياسية والمجتمعة، والتشريعية والمؤسسية- رغم ما فيها من إيجابيات لا تنكر- تلبي  دوما مطالب الحق والعدل والإنصاف في التعامل مع جميع المجموعات السكانية، سواء فيما بين الأفراد داخل كل مجموعة على حدة، أو بالنسبة لتعاطي المجوعات فيما بينها. كما لم تكن ظروف وشروط ذلك التعايش القديم لتحول دون ممارسة أقسى أنواع التمييز والتهميش، والظلم الاجتماعي، والقهر ضد الأفراد والجماعات داخل نطاق بعض المجموعات السكانية، وكذلك فيما بين بعضها البعض.

 

وقد نتج عن تلك الوضعية، قيام “عقد اجتماعي” يكرس نظاما مجتمعيا يقوم على أساس تراتبية مجحفة، لا شك أنها كانت جزء من  النظام السائد آنذاك على مستوى المعمورة، حيث ترجع تلك الممارسات لحقب ما قبل التاريخ، منذ الحضارات المصرية والبابلية القديمة، وغيرها.

 

وبالفعل فقد كرست شروط نمط التعايش الاجتماعي القديم، الذي كان سائدا في هذه البلاد، ممارسات مجتمعية اتسمت بالتهميش والإقصاء والظلم والقهر، كآليات قارة للفرز الإجتماعي. ولعل أبشع صور تلك الهيمنة وذلك القهر قد تجسدت من خلال ممارسة الإسترقاق من طرف البعض ضد البعض الآخر، حيث كثرت أعداد الضحايا داخل مختلف المجموعات السكانية الكبرى بكل أقوامها، وألوانها، وأديانها، دون استثناء.

 

ولئن ظلت بشاعة ممارسة العبودية في بعض المجموعات الموريتانية غير ظاهرة تماما للعيان، بسبب التشابه في لون البشرة في بين العبيد والأسياد، فإن فظاعتها لم تكن تقل عن نظيرتها داخل مجتمع “الموريين البيظان”، رغم تقارب لون البشرة فيما بين العبيد والأسياد في هذه المجموعة.

 

وفي هذا السياق، مثلت قبائل “إثگرن”، و”إيزگارن” و “إيرناكن”، وربما غيرها، رافدا أساسيا للاستعباد، الذي مارسته بعض الأقوام الأوائل من ذوي البشرة البيضاء، ضد الكثير من أفراد تلك القبائل منذ البداية، قبل أن تعمق وتطور المجموعات “الصنهاجية” الوافدة ممارسة الاسترقاق، من خلال تعريض الضحايا لصنوف مختلفة من فرض التبعية والاستغلال القسري لصالح الإقطاعيات الفكرية والدينية، قبل أن تأخذ مأساة الاسترقاق أبعادا أكثر وحشية ومأساوية، مع مجيء القبائل العربية وإقامة الإمارات، ليتسع نطاق السيطرة والاستعباد، وتزداد أساليبهما ضراوة ووحشية، كما تضاعفت أعمال السخرة حسب متطلبات الأرستقراطيات الأميرية الجديدة، بدء من رعي المواشي وسقيها، إلى أشغال الزراعة والقطف والحصاد، ومختلف الأعمال الشاقة الأخرى، مثل حفر الآبار وإقامة السواقي للري، وحمل الأثقال، وغير ذلك من الأعمال المنزلية.

 

ولا شك بأن تعاظم واستفحال ممارسة الإسترقاق داخل مختلف المجموعات الموريتانية بكل ألوانها، كان جزء من منظومة أكبر، درسها بشكل دقيق، وكشف بشاعتها الباحث الجزائري-الفرنسي مالك شبل، رحمه الله في كتابه “الاسترقاق في أرض الإسلام” الصادر سنة 2007 في باريس؛ لكن التطور الدراماتيكي لممارسة الإسترقاق لم يكن أبدا بمعزل عن الأدوار التي لعبتها أوروبا آنذاك، التي كانت أساطيل سفنها أكبر مشجع ومسهل لتجارة العبيد، وجلبهم نحو القارتين الأوروبية والأمريكية انطلاقا من الساحل الإفريقي، وإن لم يقتصر ضحايا تجارة الرقيق تلك، على ذوي البشرة السوداء ضمن مختلف المجموعات السكانية السوداء، بل طالت أيضا ولفترة معينة، بعض الفئات من ذوي البشرة الفاتحة، التي تعرضت للاسترقاق من طرف التجار البرتغاليين الذين غزوا الشواطئ الموريتانية.

 

لقد أدت ممارسة العبودية، خاصة داخل البنية العميقة لمجتمع “الموريين البيظان”، إلى حدوث إختلالات جوهرية في مسار تطور مجتمعي غير متكافئ، حتى وإن لم تظهر انعكاساتها السلبية بشكل واضح، إلا بعد قيام الدولة الوطنية الحديثة، خاصة بعد نيل الإستقلال، وما كان يتطلبه بناء دولة ومجتمع حديثين على أسس عصرية تضمن حقوق المواطنة، والمساواة، وتكريس العدالة والإنصاف لجميع المواطنين، وتحشد الطاقات لبناء مصادر بشرية ذات كفاءة، قادرة على النهوض بأعباء الدولة العصرية على كافة المستويات.

 

ولعل صدى مأساة الإسترقاق في المجتمع الموريتاني، قد ظل موجودا في التقاليد المروية “للموريين البيظان” حتى اليوم، حيث أصبحت كلمات “آزگر” و”آرنيك”، ذات الشحنة السالبة، تطلق على العبد الذي تعود أصوله إلى “إثگرن”، و”إيزگارن” و”إيرناكن”، رغم أن تلك القبائل الأمازيغية، قد مرت بعد مجيئها إلى موريتانيا، بسلسلة من عمليات التهجين المختلفة، من خلال التزاوج المتبادل مع ذوي البشرة الفاتحة القادمين من الشمال، وكذلك مع المجموعات السكانية السوداء في شمال ووسط وجنوب البلاد، كما يفترض بأن الكثير من أفراد تلك القبائل قد بقي حرا طليقا منذ زمن قديم، واستطاع الاندماج في نسيج التشكيلات  المجتمعية التقليدية “للموريين البيظان” .

 

لقد أقام “المورييون البيظان”، وهم مزيج من نسل السكان الأصليين، أي القبائل البدوية البربرية بشقيها الأسود والأبيض، التي ظلت تعيش في الصحراء، والقبائل العربية من بني حسان، التي وفدت إلى البلاد منذ القرن الـ15، علاقات متنوعة مع المجتمعات ذات البشرة السوداء المجاورة لهم في جنوب البلاد. وقد ارتكزت تلك العلاقات بعد الفتح الإسلامي خاصة، على أسس دينية، وثقافية واقتصادية واجتماعية وسياسية، كان قوامها نشر تعاليم الدين الإسلامي، والثقافة العربية، ورعاية المصالح والنفوذ، والتبادل التجاري لأنواع المحاصيل الزراعية المنتجة في مناطق وادي النهر، مع مختلف المنتجات التي كان يروجها “المورييون البيظان” مثل التمور، والشعير، والصمغ العربي، والملح، وغيرها.

 

وقد نتج عن ديناميكيات الإستيعاب المتبادل لدى كل من المجموعات السكانية المختلفة، خاصة من خلال آليات العلاقات الزواجية المتبادلة فيما بينها، مستوى كبير من الاندماج المجتمعي وخلق شبكات قرابية بينية جديدة، تجسدت في تسارع ظاهرة التهجين الخلاسي بين مختلف المجموعات، بغض النظر عن أصولها وألوان بشراتها، واتساع دائرتها على مدى أجيال عديدة، فضلا عن تطور الشبكات القرابية في اتجاه تكريس الأصول المتبادلة سواء داخل المجموعات أو فيما بينها.

 

ولعل الأمثلة على ذلك كثيرة، فوفقا للتقاليد المروية في مجتمع “أسوانك”، فقدت هذه المجموعة الكثير من العائلات التي استقرت في منطقة “فووتا” بعد أن ذابت في كتلة السكان الفولان/الهالبولارن، مثل عائلات “توري”، و”ساخو” و”بارو”، و”غاساما”، و”كامارا”، “ويال”، و”باتيلي”، و”كيبي”، و”سوماري”، و”كوريرا” ، حيث دفعت جميع تلك العائلات ضريبة العيش في ظل الغالبية السكانية الوازنة، وفقدت لهجتها الأصلية لصالح “البولارية”.

 

وقد بلغ تطور الشبكات القرابية- حسب بعض المؤرخين والنسابة- حد تكريس الأصول القومية المتبادلة لبعض المجموعات، مثل وجود بعض قبائل من “الموريين-البيظان” ذات أصول  “سونينكية” أو “فولانية”، وفي المقابل، وجود عائلات من أصول عربية، وبل وحتى من بعض الأشراف مثل “بني صالح”، الذين ينتسبون لذرية الشريف “عبد الله الكامل” من ذرية الحسن بن علي رضي الله عنهما، حيث يعتبر حفيده الشريف عبد الله “خان” الذي قد يكون أخواله الزنوج قد حرفوا نطق اسمه إلى “كان”، وهو من تنسب إليه مدينة “كومبي صالح”، التي سبق أن كانت عاصمة لمملكة “غانا”، خاصة، بعد أن آلت أمور الحكم فيها إلى تلك السلالة من أصول عربية، الذين هم “بنو صالح”، ومنهم أيضا عائلات “إليمان دامت”، و”إليمان دجيكو” التي اندمجت نهائيا في مجتمع “الهالبولار” Halpullar في منطقة “انتيكان” وفي مناطق أخرى على ضفتي النهر.

 

وفي الوقت الذي تشير فيه المصادر إلى اندماج كلي لبعض العائلات من أصول عربية داخل مجتمع “الهالبولار” Halpullar، فإن الكثير من العائلات المشهورة من هذا المجتمع “الهالبولاري” تعتبر نفسها ذات أصول عربية، مثل عائلة “لي”، التي تعتبر نفسها أحفادا لرجل عربي يدعى “فضل الله”، وعائلة “توري” التي تنتسب لـ “محمد حبيب الله”، وعائلة “كان” التي تنتسب إلى “محمد المسلم”؛ أما عائلات “با” و”باري”، و”ديالو”، فإنها تنتسب إلى رجل عربي يدعى “إبراهيم مالك المديني”، وكذلك عائلة “سي” التي تنتسب لـ “آل شمس الدين”؛  أما بعض العائلات الأخرى مثل “أهل مدين الله “MoodiNalla، التي تنتسب إلى شرفاء “كومبي صالح”، فإنها تتميز بازدواجية انتسابها إلى كل من المجموعتين معا، حيث يبدو أن تلك العائلة العربية قد اندمجت في مجتمع “الهالبولار “Halpullar لفترة طويلة من الزمن، قبل أن تعود بعض الأسر منها إلى مجموعة “الموريين البيظان”، مثل “موديات”، لكن مع المحافظة على انتمائهم الثقافي المزدوج والاعتزاز به كثيرا.

 

أما غالبية أسرة “مودين الله “MoodiNalla فقد بقيت ضمن العائلات “الهالبولارية” الكبيرة في منطقة “فووتا” في وادي نهر السنغال. حيث تعرف بـ “مودين الله كوبي”، كما يطلق عليها باللهجة “البولارية”، وهي أسرة من فئة “الزوايا” أو الطبقة العالمة بأمور الدين تعيش أساسا في مناطق “داو” و”دولول” في “الفوتا”، وكذلك في بعض قرى وبلدات “كيديماغا” مثل “كالينيورو”، و”السلكه الدخنه”، و”ولد ينج”، لكنها كانت عائلة شديدة الاختلاط مع مختلف قبائل “الموريين-البيظان “التي تعيش في محيطها، بل وفي مناطق أخرى أبعد من ذلك.

 

كانت عادات التزاوج بين هذه العائلة و”الموريين-البيظان “متطورة للغاية، وكان التشابه حتى في الشكل الفيزيولوجي والمورفولوجي للأفراد بين المجموعتين القوميتين مذهلا للغاية. وكانت العلاقات بينهما أخوية وحميمة، إلى درجة أن بعضها كان مربكا للآخرين. فقد كانت بعض مجموعات “الهالبولار” تعتبر بأن أهل “مودين الله” هم جزء لا يتجزأ من “الموريين-البيظان”، بينما كانت بعض القبائل الكبرى من “الموريين-البيظان”، تفاخر بالأصول “الهالبولارية” لبعض فروعها، التي تعود إلى أهل “مودين الله”.

 

وقد مكنت الروابط التاريخية المتينة بين أهل “مودين الله” والكثير من قبائل “الموريين-البيظان”، من لعب هذه العائلة دور الشريك المتميز بالنسبة لجميع الأطراف المجتمعية، والوسيط المحنك للمصالحة بين المجموعات القومية المختلفة في البلاد، في حالات نشوب الخصومة والنزاع. وكان بعض “الهالبولار” يطلقون على أهل “مودين الله” لقب “المرابطين البيض”، في مقابل فئة “زوايا الهالبولار” أو”التوروبي” الذين كانوا يميزونهم بـ”المرابطين السود”.

 

ولم تتوقف ديناميكيات التهجين القومي عند هذا المستوى، فها هو القائد المرابطي الأسطوري “أبو بكر بن عمر”، سليل قبيلة صنهاجة، هذه المجموعة البربرية الكبيرة، التي منحت اسمها لنهر صنهاجة، قبل أن يحرف المستكشفون البرتغاليون في القرن الخامس عشر، نطق الكلمة لتصبح “سينغال”، وقد تزوج “أبو بكر بن عمر”، من إمرأة من زوايا “هالبولار” بمنطقة “فووتا”، تدعى “فاطيماتا صال” التي أنجبت له ولدا يسمى “أمادو بوبكر”، أصبح فيما بعد “آنجادجيان اندجياي”، الجد الأقصى المفترض لمجتمع “الولوف” في منطقة النهر.

 

لقد أسس “أمادو بوبكر”، ثلاثا من أهم الممالك السوداء التي قامت في وادي نهر السنغال، كانت أولاها مملكة “والو” Waalo، ثم مملكة “كايور” Kayor وأخيرا مملكة “دجيولوف” Djolof. بعد ذلك، دفع هذا الأمير الخلاسي “الصنهاجي-الهالبولاري” ضريبة التخلي عن اسمه الحقيقي “أمادو بوبكر” الذي اختفى في وقت لاحق من التاريخ، لصالح لقبه الجديد “آنجادجيان اندجياي”، “Ndiay Ndiadiane”، واضعا بذلك أساسا لمجتمع جديد هو القومية “الولفية”، التي ستنتشر على ضفتي النهر بين السنغال وموريتانيا.

 

لقد تعززت كثيرا علاقات التحالف والإندماج عبر استمرار وتطور ديناميكية  العلاقات الزواجية والشبكات القرابية، بين مختلف الإمارات من كلا المجموعتين البيضاء والسوداء، خاصة في زمن الممالك، والإمارات والسلطنات، سواء منها تلك التي أقامها “المورييون البيظان” مثل “الترارزة”، و”البراكنة”، و”أولاد أمبارك”، و”إدوعيش”، أو تلك التي أقامتها المجتمعات السوداء مثل “أسوانك”، و”الفولان”، و”الهالبولار”، و”الولوف”، و”بامبارا”، منذ القرن الثامن إلى القرن التاسع عشر الميلادي.

 

فنجد مثلا، بعد انقلاب الأمير “سيدي اعلي ولد أحمدو”، على الفرع الأميري في البراكنة “أولاد نغماش”، وانتصاره عليهم وعلى حلفائهم “أولاد أحمد” في وقعة “الخَيْرْفِيهْ” الحاسمة، موطدا بذلك الإمارة في فرع “أولاد السيد”، بأن زعامة الفرع الأميري الجديد قد تحالفت مع جماعة “فووتا تورو”، في حين أن زعامة الفرع الأميري لـ “أولاد أحمد” قد اختارت الإعتماد على جماعة “هاليبه” الهالبولارية. بينما اختار الفرع الأميري لـ “أولاد نغماش” التحالف مع جماعة “لاوا”، حيث يرتبطون هناك بالدم مع عائلة “وان” وعلى رأسها “إبرا المامي”، الذي يعتبر مؤيدا كبيرا وممارسا فعليا لآليات التحالفات الزواجية بحسب المصادر.

 

وفي نفس الوقت نجد الفرع الأميري لـ “أولاد أعلي” يتفاعل مع الجماعات الهالبولارية في أقاليم “يرلابيYirlaabe” /”هبيابي “Hebbiyaabe ، و”بوصيابي” Booseyabe و”انكنار” Ngeenar، حيث قام تحالف قوي بين عائلة “أهل هيبه” من الفرع الأميري لـ “أولاد أعلي” مع “بوكار كان” Bokar Kane، زعيم الجماعة في “بوصيابي” Booseyabe ، ضد الجماعة التي في  “يرلابي” Yirlaabe والتي كانت بزعامة “مامادو سيلاي أعمر آنن”.

 

كما اكتست التحالفات الزواجية صبغة دينية في منطقة “فووتا”، حيث يكثر ارتباط التلاميذ بزيجات مع عائلات أساتذتهم وأشياخهم، مثل زواج “اتيرنو سليمان بال”، وهو الذي درس العلوم الشرعية عند زوايا منطقة “الكبله”، وتأثر كثيرا بالإمام “ناصر الدين” وحركته الإصلاحية، وكان رائدا لحركة الأئمة الإصلاحية أو الثورة الإسلامية حسب التصنيفات، في منطقة “فووتا” سنة 1776م، بإمرأة من “الموريين البيظان”. وقد أنجبت له ولده “الطالب بوبكر”، الذي أصبح فيما بعد والدا للسيدة “اخديجتن”، التي ستصبح والدة “الشيخ محمد فاضل ولد مامينا”  (1797-1867م)، وهو بدوره سيكون أبا لعشرات الأبناء ما شاء الله، الذين من بينهم “الشيخ  ماء العينين” (1831-1910م) ، الذي رحل إلى الشمال الموريتاني قبل أن يستقر نهائيا في “السمارة” بجنوب المغرب، وأخوه “الشيخ سعد بوه” (1848-1917م)، الذي استقر بالناحية الغربية من البلاد، وكان كثير التردد على أتباعه من الطائفة القادرية في السنغال، وهما اللذان سيصبحان أسلافا لعائلات كبيرة في مجموعة “الموريين البيظان”.

 

وهناك أمثلة أخرى على هذه الديناميكية، مثل زواج القاضي “أحمدو مختار ساخو” من أهالي مدينة “دبانكو” أو “بوغي” مع امرأتين من “الموريين البيظان”، إحداهما من قبيلة “أولاد أبييري”، والأخرى من قبيلة “إداب لحسن”، وقد أنجبتا له أبنته “منينه ساخو”،  وولديه “محمد الأمين ساخو” و”عبد الرحيم ساخو”. وفي المقابل، يأتي زواج أمير الترارزة “محمد الحبيب”، سنة 1833 من “ادجمبت أمبودج”، ملكة إقليم “والو”، حيث زرقا ولدا اشتهر بلقب “إعلي ادجمبت”، وقد تمتع، عندما صار أميرا، بنفوذ واسع في كلا الإمارتين على ضفتي النهر.

 

وليس ما تقدم سوى أمثلة فحسب على أهمية ديناميكية التحالفات الزواجية، وكيفية اشتغالها كآلية أنتربولوجية لبناء وتعزيز العلاقات القرابية، واستغلال مخرجاتها في نسج التحالفات السياسية، وما لذلك من تداعيات لتعديل الموازين الجيوبوليتكية على مختلف المستويات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية ضمن الفضاء الموريتاني القديم وتماساته الجغرافية  والأتنولوجية المختلفة.

 

أما في الوقت الراهن، فلا يمكن التهرب من إسقاط الإكراهات المختلفة، التي تعيشها البلاد حاليا، على استقرائنا للماضي ولتاريخ العيش المشترك بين مجتمعاتنا المحلية رغم التعدد والإختلاف الثقافي فيما بينها. لكن ذلك الإسقاط يفترض أن يتم بشكل واع ومسؤول، يرجح مفاعيل “النسبية الإجتماعية” و”النسبية التاريخية”، ويعيد اكتشاف وتثمين تلك المشتركات الروحية، والحضارية  والثقافية والتاريخية والسوسيولوجية، والأدوار الإيجابية التي لعبتها في تعزيز إرادة العيش المشترك بين مختلف مكونات اللحمة الإجتماعية في البلاد .

 

 

ولا بد من التساؤل عن ماذا بقي من المنظومة القديمة للتعايش القومي؟ وما مدى فعالية بقايا تلك المنظومة في مواجهة المعطيات والمتغيرات والتحديات الراهنة؟ وما هي الممكنات الجديدة لخدمة التنوع القومي والثقافي للسكان في البلاد كرافعة للإستقرار والتنمية والوحدة؟ وما علاقة كل ذلك بالتفكير في واقع ومستقبل الرغبة في العيش المشترك بين مختلف المجموعات السكانية؟ وما هي الآفاق والتحديات التي تواجه ذلك حاليا في إطار مشروع الدولة الوطنية؟ وما هي الحلول الممكنة والمناسبة لحل الإشكالات المطروحة؟

 

أعتقد بأن الإجابة على هذه التساؤلات وغيرها، تقتضي من كل الفاعلين في البلاد، ومن النخب الوطنية بشكل خاص، وقفة تأمل وتفكير عميق، من أجل فتح حوار جاد ومسؤول لمناقشة وصياغة وثيقة «خارطة طريق» وطنية تشخص بنزاهة وتجرد ما تقتضيه صيانة وترميم عرى الوحدة الوطنية من خلال وضع عقد روحاني-إجتماعي جديد أو «ميثاق الائتمان الوطني»، لتعزيز الرغبة بين مختلف المكونات القومية الوطنية في تحقيق العيش المشترك في هذه البلاد، على أن يكون ذلك الميثاق أكثر إنصافا، وعدلا، وقابلية للإستمرار، خدمة للتنوع القومي والثراء الثقافي ضمن الوحدة الوطنية للبلاد والحفاظ على السلم الأهلي.

انواكشوط، 27 دجمبر 2018

*محمد السالك ولد إبراهيم

باحث وخبير استشاري

medsaleck@gmail.com

 

تعليقات الفيسبوك