بسم الله الرحمن الرحيـم
أختنا الراحلة جميلة دبش،
كريمة وعائلة السيدة كسيكسي !
أعضاء وعضوات تجمع النساء التونسيات السوداوات,,
المؤسسون والمؤسسات لشبكتنا الإقليمية للتنمية ومناهضـة العنصرية،
الرئيس وأعضاء اللجنة التحضيرية؛
الجمـع الحاضر معنا من بين المنظمات والبرلمانيين العرب والمثقفين والمناضليين ومن كافة الشرائح والمكونات والقوميات في الشرق الأوسط وشمال افريقيا وخارجها.
أيها السود الكرام، التبو والمهمشين، النوبـه والكحلان، الزنج ولحراطين؛ وباسماء أخرى ومسميات اخريات..
السـلام عليكم؛
نلتقي اليـومَ لتأبين شخصية مكافحـة لا تعرف الكَلَلَ في ميادين السياسـة والانعتاق الاجتماعي؛ كانت تمثلُ تجسيـدا فعليا للصفات التي نادراً ما توجد في الشخص الواحد، مُناضلة شُجــاعة، ومُرشـدة ماهرة، ومُبادِر مُنظمُ الأفكارِ، والوسطية حيـن يحتدم الخصامُ. نحنُ نلتقي باختصار لتوديع شخصية كرست جهدها دون كلل لخدمة الناس، أو هكذا بدى لي منذ التقيت بالمرحومة بإذن الله.على المستوى الشخصي لم أكن اعرف جميلة قبــل فاتح دجمبر 2022 حين هاتفتني ضمن مُكالمة مطولـة حدثتني خلالها عن صلاتها بالموريتانيين بعامـة ثم بسطت أمامي مشرُوعًا نضاليًا يضمُ الى جانبها نشطاء من بعض معارفي من أمثال الدكتورة مَها عبد الحميد، كانت تحمل أهدافًا ورؤى تسعى من ورائهما لتخليص السود في الوطن العربي من حيف التراث والتاريخ، ورغبةً جامحـة في أن تُقـرَ المساواة التامة بعيدا عن العنصريـة والتحيز، ولقـد لَمِسْتُ منها الإخلاص في القول والحماس صوب الفعل والحرص كل الحرص على النجاح فعلا ًوقولاً! .. ثُـم تشاءُ الأقــدار أن تُغادرنا والى الأبــد في التاسع عشـر من نفس الشهر، ومثلما يعود النهر الى البحر هكذا يعود عطاء الانسان اليه، … فقد بادلتني الرأي والمشُورة والجهـد ساعة بساعة،.. يومًا بيــوم ورغـم قصر الزمن فلقد كانت صحبتنا بمثابـة رفقـة دهــر، وما أجمل أن يترك الميت خلفهُ ما يدل عليه، وهكذا الحال مع جميلة فقد تضمنت آخـر محادثـة تتركها لي هي هذه الرسالة: “.. لا تترك الفراغ ارجوك…!”، ويشاء الله، أن تتركنا هـي حيـن اختارتها العناية الإلهية إلى حيثُ الصديقين والشهداء، وحسنَ أولئك مقامًا! كانت تشبه فانوسا في موقع مهجـور يضيء لنا طريقا غير معبد بالمرة لكنها رحلت فجأة تاركة فراغا لم نكن نقدِر على ملئه أو اصلاحـه، ولَكَمْ تسرب اليـأس الى نفوسنا بعد رحيلها من عبثية المشهد النضالي وتبايـن الأهداف والمنطلقات والرؤى! … نعــم لطالما أحسسنا باليأس وبنداء الرحيل! وما أكثر الأفكـار السلبية التي تسللت الى صفوفنا واخترقت مداولاتنا وولدت فينا همة الضعفاء، المحبطين من المشروع والساعين الى التخلي عنه في وسط الطريق..؛ قبل ان يُعيد صدى روح جميلة دبش كسيكسي التردد “.. لا تترك الفراغ أرجوك..!”.. لهذا ولهذا فقـط، يُكمل الرفاق والرفيقات الإنجاز ويقفون في وجـه التحديات، حتى اليوم المشهود، يوم اشهار الشبكة الإقليمية للتنمية ومناهضة العنصرية؛ وانه ليوم قريب لو تعلمون. السيــدات والسادة؛ نخاطبكم هنا بمشاعر مختلطة، فلا نحـن نقدر على إخفاء إحساسنا العميق بالحزن والأسـى بعدما اختار الله جميلة دبـش كسيكسي الى جواره، فالله وحده يعرف حجم الرزء الذي لحق بعائلتها ومجتمعها ورفقتها والخسارة التي ضربت في العمق مشروعنا النضالي غير المسبوق في الاقليم العربي، وقديما قال مونتسيكيو (1689ـ1755) “يجب أن لا نبكي على أصدقائنا، إنها رحمة أن نفقدهم بالموت ولا نفقدهم وهم أحياء”، والحياة الحقيقية هي فصول قوامه الاستمرارية والنقاء والأمان وهروب الى الأمل من اليأس والتزييف “إن المناضل ليدرك في كثير من الأحيان أن عمله لا أن يقاتل القوى المعادية فحسب، بل كذلك حبات اليأس المتبلورة في جسم مضطهده”، قالها حديثا فرانز فانون Frantz Fanon (1925ـ1961) في معذبو الأرض. وبطبيعة الحال، فإنه من ضمن الظواهر السيكولوجية والاجتماعية المرتبطة بالذهنية والعقلية تبرز الى الوجود إشكالات معينة كالاستعباد والاضطهاد، الدونية والاحتقار، التشويه والعنصرية وغيرها من سلوكيات الاصطفاء اللوني والعرقي والطبقي التي ترتبط دون شك، بتعريف السيد فرانز فانون للاستعمار بأنه “حالة عُصابية” كان لها التأثير العميق في نفسية المستعمِر والمستعمَر في الآن ذاته”، ومع أننا نقتبس من فانون فإننا لسنا ســوى قوى مدنية ترفض العنف الثوري وتؤمن بالنضال السلمي، ونُعلي من قيمة المشترك ونرفض الوصم الثقافي والاجتماعي، ونتطلع للتعايش في منطقتنا حين يسـود الحب والأمن والاستقرار. لا تترك لنا عقول الحكماء الثاقبة ولا عظمة الحدث فرصـة لنغفل عن الأمانـة التي تركتها بين ايادينا الأخت والصديقة والرفيقة جميلة دبش كسيكسي بحيث لا يزال بين أيادينا العمل المطلوب اكماله في المستقبل القريب وليس البعيد، أن نؤسس ونطلق مشروعًا نضاليًا مستدامًا وصادقًا، نحـن نرتضيه لأنفسنا ومجتمعاتنا ولشركائنا على امتداد الأفق، وحيث يمكننا تكريس القناعات وتجريب الادوات النضالية السلمية والحضارية بما يتماشى وقيم حقوق الانسان الكونية.وإن تحقيق كل ذلك ليعد اخلاصا منا كلنا لمن بعث فينا روح التحدي وساهم في جمعنا وتفاهمنا على ما نحن عليه مقبلون..أيها المناضلون والمناضلات؛ ان افضـل طريقة لتلخيص حياة جميلة رحمها اللـه هي القول بانها كانت مناضلة بـارعة ومثقفة عضوية بالمفهوم الغرامشي الصريح؛ ولا أدل على ذلك من اسهامنا المشهود والقــوي فـي تغيير أوضاع السود في بلدها تونس وفي البُلدان العربية، حيث بادرت من موقعها داخل البرلمان التونسي إلي سن قانون مناهضة كافة اشكال العنصرية في تونس، وكانت لها مواقف قومية مشهودة تجاه حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، حيث صدح صوتها ثانيـة فـي البرلمان التونسي في 2021 لدعم قانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني. وفي افريقيا داعية للحقوق المدنية والسياسية ثم Pan-Africanist حين تحدثت بـاسم “برلمان النساء الافريقيات” الداعيات الى النهوض بالشعوب الافريقية وتعزيز الروابط التاريخية بين مناطق القارة.ثــم نجحت مرة أخـرى الى جانب نعمان الحذيفي في أن تترك للأجيال اللاحقة مساحـةً للتحرك أفضل مما كان، وفي سنِ رؤيـة نضالية اعمقَ مما سبقها، وتنظيمًا إقليميًا اوسـعَ مما نُكابِده في أوطاننا… أبْقتْ مشـروعًا يضـم مُجتمعات ليبيبة، تونسية، عراقية ومصرية وسودانية واردنية وجزائرية وموريتانية، ويمانيون ولهفة لا حدود لها ليلتحق بنا ممثلون عن بقية المجتمعات المستهدفة في نطاق منطقتنا، وكل المبادرون والمبادرات الى جانبها الآن، حيث يقـع عليهم العبء يبقون منفتحون على السود الناطقون باللغة العربية أينما كانوا وكيفما كانوا، وأهــلاً بدُعاة العدالة والمساواة والديمقراطية كلهم.أيها المؤسسون والمؤسسات؛كانت جميلة,,,أحد المتحدثين الأكثر موهبةً واقناعًا عندما دخلنا في جدالات ونقاشات ساخنة حول ماهية التأسيس وطبيعة المهمة، وسياق التدخل وأطراف المعركة، حتى وفاتها المفاجئة، وابانت عن قدرة كبيرة على إدارة الاختلاف فيما بيننا. ولطالما كانت الموحِد الذي سعى دائما الى جمع الرفاق معا، وقطع الطريق على الشقاق، لقد كانت بانية وليس مُدمرة، ومستمعة جيدة بحيث تبتعد عن الجدالات العميقة والعدمية وترفض الانجذاب الى المهاترات وتفضل العمل بإخلاص وجديـة، لقد كانت نموذجا للتواضع.لم تكن جميلة ناشطة سياسيـة ناجحة فحسب، لتصول وتجول في ميادين المبادئ وبين الممكن والمقبول، بل كانت كذلك انسانة مؤمنة ومُسلمة مُحافظة على جوانبها الدينية، بحيث لا تَرى أبـدًا تناقضًا بين طاعة الله وخدمة الانسان، وفي الواقع، لقد فهمت أن كلا من الشبكة الإقليمية والإسلام يهدفان الى تخليص الانسان من الاستغلال والاستعباد والعنصرية، فلا توجد طريقة لطاعة الله أقرب من تكريم بني آدم، وخاصـة الفئات المهمشة والمغبونة والمحرومة. فاليُبارك الله في جميلة حيثما تكون، ..لقد خدمت شعبهَا، خدمت عائلتها، واطاعت ربها.اننا ونحن في حزننا المهيب وأسانا العميق، لا يمكننا إخفاء اماراتُ الفرح في مآقينا الدامعة، ينبع فرحنا من المعرفة الكاملة بأن 54 عاماً من حياة جميلة كانت ازينت بالإنجازات الهائلة والنتائج الباهرة والتي لا يمكن أن يضاهيها فيها سوى عدد قليل جداً من الأشخاص المُعمرين.والى عائلة جميلة كسيكسيتود الشبكـة، أن تشكركم بحرارة نظير مشاركتكم معنا في هذا التأبين، ونجدد لكم العزاء والمواساة التامـة، اثر وفاة ابنتيكم جميلة وشقيقتها آمال رحمهما الله، وللآنسة خولة، نؤكد لكـ ان اسم والدتك جميلة سيبقى محفورًا في قلوبنا بشكل دائـم وستبقى هذه الشبكة ارثا خالصًا لها إلى الأبد، ونحن مدينون لها بالامتنان على تضحياتها غير الانانية والصادقـة، الى جانبنا في وقت نحن في امس الحاجة الى ذلك!وداعا أيتها المقاتلة الشجاعة !
وشكرا لكم على الانصات
عبيد اميجن عضو مؤسس للشبكة الإقليمية للتنمية ومناهضة العنصرية/ الشـرق الأوسط وشمال افريقيا رئيس منتدى الأواصر للتحاور ودراسات حقوق الانسان في موريتانيا